الثلاثاء، 30 يوليو 2019

كلام وزنه.. ذهب


سألني والدي مؤخرا: "المحاضرات التي تلقيها بين فترة وأخرى، هل تأخذ عليها شيئا؟".. احترت بماذا أجيبه لأنني لن أكون صادقا إن أجبت بالنفي أو الاثبات.. فالجواب (لا) لأنني بالفعل لا أطلب شيئا ولا أضع شروطا مقدمة، و(نعم) في حال تفهم الطرف الآخر حاجتي للسكن والتذكرة - وربما مصروف الجيب - وهو ما قد يحدث ولا يحدث في مناسبات كثيرة.

وهذه المساحة الرمادية تعود إلى عدم تبلور إلقاء الخطب - في مجتمعنا المحلي - كمهنة أو مبادرة يستحق صاحبها مقابلا ماديا.. أما في أوروبا والولايات المتحدة فوصل الأمر (هذه الأيام) درجة تحولها لمصدر دخل رئيسي للمشاهير ورجال السياسة.. وأقول (هذه الأيام) لأن الأمور لم تكن بهذه السخاء حتى في الدول الغربية.. فخطباء عظام مثل لينكولن وتشرشل وهتلر ولوثر كنج لم يكونوا يستلمون شيئا مقابل خطب بليغة تحرك الملايين. ولكن منذ عقد السبعينيات بدأت تتبلور ظاهرة المؤتمرات ودفع مقابل مادي لاستقطاب المشاهر إليها.. ويمكن القول ان هنري كيسنجر (وزير خارجية أمريكا السابق) أول من رسم الخطوط العريضة لهذه الصناعة. فخبرته السياسية والاكاديمية (كأستاذ في العلوم السياسية) اتاحت له الحصول على 80000 دولار مقابل كل محاضرة يلقيها. أما في اوروبا فكان الرئيس الفرنسي جيسكار ديستان يتقاضى 75 ألف دولار لتلبية أي دعوة من هذا النوع.. أما في ألمانيا فكان المستشار السابق كوول يتقاضى 50 ألف دولار عن كل محاضرة يلقيها داخل أوروبا و100 الف خارجها.. وبعد انتهاء حرب الخليج الأولى كانت وسائل الاعلام قد سوقت بشكل جيد لنورمان شوارتسكوف (قائد قوات التحالف) بحيث رفع سعر محاضراته من خمسة آلاف دولار الى 210 آلاف بعد انتهاء الحرب!!

وفي العقود الأخيرة أصبح الساسة المتقاعدون (أمثال ريغان وبلير وكلينتون وتاتشر وجالجيني وجريسبان) نجوما يستلمون مبالغ خيالية مقابل إلقاء "كلمة" لا تستغرق أكثر من ساعة.. ومع هذا يأتي في مقدمة الجميع رجل الاقتصاد المعروف دونالد ترمب (الذي لا يملك شيئا من أصول البلاغة والأدب) كونه استلم 1,5 مليون دولار من مؤسسة ليرنينج أنكس نظير خطبتين ألقاهما في ملتقى العقار والأعمال عامي 2006 و2007!!

أما في عالم السياسة فلا أعرف أحدا نال أكثر من الرئيس الأمريكي السابق رونالد ريغان الذي استلم عام 1989 مليوني دولار نظير جولة في اليابان تضمنت خطبتين نظمتها شركة الاتصالات العملاقة Fujisankei.. ويأتي بعده رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير الذي استلم نصف مليون دولار عام 2007 نظير محاضرة نظمتها مؤسسةGuangda Group.

أما المراكز التالية فيحتلها الرئيس السابق بيل كلينتون الذي استلم (نظير خُطب وحيدة) 450 ألف دولار عام 2006، و400 ألف دولار عام 2002، و350 ألف دولار عام 2005، و300 ألف دولار بين عامي 2002 و2005 (ومجموع هذه المبالغ يساوي 5,625,000 ريال سعودي)!!

ولاحظ أننا نتحدث هنا عن "أرقام قياسية"؛ حيث نالت الأسماء السابقة مبالغ أقل - أو غير معلنة - تشكل في مجموعها ثروة كبيرة؛ فالرئيس كلينتون مثلا كسب منذ اعتزاله وحتى اليوم أكثر من 10 ملايين دولار نظير الكلمات التي ألقاها في المؤتمرات (وكي أزيدكم غيظا، أعترف بأنني نمت خلال المحاضرة التي ألقاها قبل سنوات في منتدى جدة الاقتصادي واستلم مقابلها مليون ريال كاش)!!

وكي لا نخلط بين "الكاش" و"البلاغة" أشير مجددا إلى أننا نتحدث عن ظاهرة حديثة (بحداثة انتقال لاعبي الاتحاد بملايين الريالات) ولا تعني اطلاقا أن كلينتون أو بلير أكثر بلاغة من لينكولن وتشرشل أو أي خطيب مفوه لم يتصور إمكانية كسب المال ب تحريك اللسان!!

أما بخصوص شخصي المتواضع؛ فما يشغل بالي حاليا - ليس وجود أو عدم وجود مقابل مادي - بل حتمية توقفي عن كتابة مقالاتي (التي تساوي الكثير) حين أضطر للسفر وترك صومعتي الخاصة!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...