الثلاثاء، 30 يوليو 2019

أين ذهبت أسواقنا المفتوحة؟


أشياء كثيرة أتجنب زيارتها حين أتواجد في الخارج؛ من بينها المراكز التجارية الحديثة والمغلقة.. فبالإضافة الى امتلاكنا مثلها (في السعودية) أجدها متشابهة ومتماثلة في جميع الدول.. تماما مثل المطارات ومطاعم ماكدونالد ورسومات الجرافيتي.. ولأنها تكاد تكون نسخة مكررة في كافة الدول (حتى بمحلاتها وماركاتها العالمية) لا أجد فيها ما يعبر عن طبيعة المجتمع وهوية البلد الذي أزوره فأشعر سريعا بالملل والاختناق!

وفي المقابل أعشق الأسواق المفتوحة والموسمية التي تعقد في الهواء الطلق مرة في الاسبوع أو الشهر.. أنظر إليها كمتحف مفتوح ورحلة عبر الزمن وامتزاج حقيقي بثقافة البلد ومنتجاته الأصيلة.. أبحث عنها قبل سفري لأي دولة وأنظم جدولي بحيث أتواجد خلال موعد انعقادها بالضبط (بل وأجلت في عدة مناسبات رحلة عودتي كي أصادف موعد انعقادها القادم).

وللأسف لا تتسع المساحة لإخباركم بكل تجاربي في أسواق شنغهاي واسطنبول وبرووش وكوالالمبور ولندن واستوكهولم وبرشلونة وكوبنهاغن ومراكش.. ولكن جميعها شكلت خبرات جميلة وتجارب فريدة لا يمكن العثور عليها في مراكز تجارية تديرها شركات استثمارية أو مع ماركات عالمية لا تملك هوية وطنية!!

وكل هذا يجعلني أتحسر على أسواق شعبية كثيرة تمت ازالتها في المدن السعودية بحجة التطوير والتحديث وإعادة التخطيط.

أسواق موسمية ومفتوحة شكلت لآبائنا وأجدادنا مناسبات للالتقاء وتبادل المنافع وتناقل الخبرات ومثلت بصدق طبيعة الناس وحقيقة المجتمع.

أسواق تبلورت خلال مئات السنين ولكنها عجزت في النهاية عن الصمود أمام زحف الكتل الخراسانية والشركات الاستثمارية والعمالة الآسيوية والبضائع الأجنبية!!

وفكرة هذا المقال خطرت ببالي بعد اطلاعي على تحقيق جميل في مجلة ترحال (بقلم وعدسة الدكتور محمد الحيزان) خاص بسوق الدلم القديم على بعد 90 كلم جنوب الرياض.

سوق ذكرني - رغم صغره - بسوق العينية وباب المصري وباب السلام وباب المجيدي في المدينة المنورة (حيث تشير كلمة باب إلى الجهات المقابلة لأبواب المسجد النبوي وسور المدينة القديم).. فهو نموذج حي لأسواق مفتوحة كثيرة - شهدناها في طفولتنا - ولكن معظمها اختفى الآن.. وهو يعقد منذ مئتي عام ويشكل لأهالي المنطقة (بالإضافة للرزق) موقعا للالتقاء والاجتماع وتبادل الخبرات والمنافع، بل وحتى الاستماع للعلماء والمشايخ، حيث يوجد فيه كرسي من الطين كان يجلس عليه قاضي الدلم ثم الشيخ ابن باز رحمهما الله.

وحين تتصفح المجلة (الصادرة من هيئة السياحة والآثار - عدد يناير 2012) تأسرك صور الناس وابتسامات المرتادين ووفرة البضائع المحلية، بل وحسن النية المتمثل في وجود نساء يعرضن بضائعهن ومشغولاتهن اليدوية.

وأسواق كهذه ظاهرة اجتماعية لا يعرفها أطفال اليوم ولكنها تذكرنا بطفولتنا وكيف كانت أحوال الناس تنتظم دون عمالة أجنبية ورعاية رسمية ومزايدات اجتماعية.

وما أتمناه فعلا هو أن يعاد إحياء أسواقنا المفتوحة - في ذات المواقع القديمة - وتشجع ظهورها وازدهارها من جديد.. وهذا النوع من الأسواق يجب أن يستثنى من العمالة الآسيوية والبضائع الأجنبية وتعقيدات وزارة التجارة بحيث يتحول - في النهاية - إلى متحف مفتوح يعبر عن طبيعة الناس وهوية المجتمع وأصالة المنتجات المعروضه فيه.. وإعادة إحيائها يُشكل - بالإضافة للمنافع السياحية - فرصة جديدة لإحياء صناعاتنا المحلية وخلق فرص العمل وحماية البسطاء وصغار التجار من منافسة الشركات الاستثمارية والماركات الأجنبية!!

فهل تراني أطالب بأكثر من فرصة التعبير في الهواء الطلق؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...