الثلاثاء، 30 يوليو 2019

كل الروس.. أبطال


تحدثت في آخر مقال عن تفوق الشطرنج كلعبة ذهنية، وحاولت الإجابة عن السؤال الذي عنونت به المقال "من اخترع الشطرنج فعلا؟"

وبعد مرورنا على الهند وإيران والعراق (في الماضي) وعدتكم بالحديث عن تغلغل الشطرنج في روسيا (في عصرنا الحاضر) وخلفية دخوله ضمن المناهج الدراسية ومكونات الشخصية الروسية!!

وبدون شك هناك معادلة بسيطة لأي تفوق رياضي مفادها: بقدر ما تكون اللعبة شعبية بقدر ما تحقق الدولة فيها بطولات.

فإذا نظرت للصين مثلا تجد الناس فيها مغرمين بتنس الطاولة الأمر الذى انعكس على عدد البطولات التى أحرزتها الصين فى هذه اللعبة.. وتحضى رياضة الأثقال بشعبية واسعة في بلغاريا الأمر الذى أهلها لتسيد المنافسات الدولية.. ويعشق الباكستانيون الكريكيت لدرجه اصبح من المستغرب ألا يفوز "باكستاني" بالبطولة الدولية لهذا العام. وقبل اندماج ألمانيا الشرقية مع ألمانيا الغربية كانت العاب القوى تحضى بهوس جماهيري ينتهي دائما بتحقيق مراكز عالمية متقدمة وإحراج "لعيبة" كبار مثل روسيا وأمريكا. اما فى البرازيل - وما أدراك ما البرازيل - فالناس هناك تتنفس كرة القدم وتفطر بها الأمر الذى أهلها لنيل خمسة كؤوس حتى الآن!!

أما في روسيا فاللعبة الشعبية الأولى التى يتفوقون فيها هي بدون شك الشطرنج.

فمن بين أعظم ثلاثة عشر بطلا فى القرن الماضي هناك احد عشر روسيا - وحتى البطل الامريكى الوحيد بوبي فشر ينحدر من أصل روسي.

ومظاهر الهوس بهذه اللعبة تلاحظها فى كل مكان؛ ففي عز الشتاء تتهافت الجماهير يوميا الى حديقة نيميريازفسكي - قرب موسكو - لمشاهدة تحديات لا تنتهي بين الصغار والكبار. ويضم الكرملين نفسه اكبر صالة شطرنج في العالم يؤمها يوميا عشرات المبتدئين والمحترفين. وروسيا هي الدولة الوحيدة التي تدرس الشطرنج كمنهج في مدارسها الابتدائية وتحتل أخباره ومنافساته الأولوية في الصحافة والتلفزيون.

وهناك قول مفاده "لن يكون المرء روسيا ما لم يتقن اللعبة ويحملها معه فى كل مكان". ومن غير المقبول ان تصبح شخصية مشهورة ولا تبتكر "حركة" جديدة باسمك؛ فشخصيات كبيرة مثل لينين وبوشكين وتولستوي وايفان لهم "حركات" معروفة بأسمائهم.. بل ان الحركة المعروفة باسم "الاستاذ الأعظم" من ابتكار القيصر نيوقولا الثاني آخر الاباطرة الروس!

وفي الحقيقة؛ قد يكون الشطرنج اخترع في إيران والهند ولكنه تأصل فى روسيا وتجذر فيها؛ وقد انتقل اليها من المناطق الاسلامية في الجنوب قبل أوروبا بزمن طويل. ووجد فور وصوله قبولا فطريا لدرجة اعتقاد معظم الروس أنه اخترع في بلادهم. وبعد الثورة البلشفية تبنى الحزب الحاكم اللعبة رسميا فنظم المنافسات وفرضها كمنهج دراسي وأعلن ان من حق كل مواطن امتلاك "شطرنج" مجاني.. كما استغله أيدلوجيا لإثبات الانضباط الشيوعي والتفوق الاشتراكي وذكاء العقل الروسي، ناهيك عن الفكر الماركسي الذي لا يعترف بالصدفة والقدر ويؤكد على الأسباب والتراكم المنطقي للنتائج.. (وحين نقول ذكاء العقل الروسي نشير بذلك الى اعتقاد الروس بان تفوقهم في الشطرنج يعود الى انهم أذكى شعب في العالم. فقد لا يهتم الأب الروسي ان تدنت علامات ابنه فى الكيمياء والأحياء ولكنه يندب حظه ان تعلق فشله بالشطرنج)!!

وهوس الروس بهذه اللعبة أمر عجز حتى عباقرة الشطرنج عن تفسيره.. ولكن.. كما ان شواطئ البحر ومظاهر الفقر وطبيعة الشخصية البرازيلية أنتجت لاعبين عظام؛ فإن طبيعة المزاج الروسي، والمناخ البارد، والمنشآت المغلقة، وتشجيع الدولة عوامل جعلت من كل الروس أبطالا في منافسات الشطرنج.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...