الخميس، 25 يوليو 2019

رسائل من اللاوعي


من الأسئلة الكبرى التي شغلت الإنسان: مصيرنا بعد الموت وهل سنظل على تواصل بعالم الأحياء؟!

ويبرز هذا السؤال بأقوى صورة حين نفقد عزيزا علينا فندخل بحالة ضعف وتساؤل عن إمكانية تواصلنا معه!

ومن نقطة الضعف هذه ظهر مايعرف بجلسات "تحضير الارواح" حيث يظهر صوت المتوفى من خلال "وسيط روحي".. وقد لجأ لهذه الجلسات زعماء وعلماء وعباقرة ومثقفون مثل الزعيم المصري جمال عبدالناصر والرئيس الامريكي إبراهام لينكولن، والعالم الانجليزي اسحاق نيوتن - بل إن المخترع المشهور توماس اديسون حاول ابتكار جهاز تلفون يتصل بالاموات بدون الحاجة لوسيط روحي (يتلاعب بالعواطف ويفبرك الشخصيات حسب قوله)!!

وفي الحقيقة سبق ان تحدثتُ عن هذا الجانب وأوردت فيه الرأي الشرعي القائل بأن تحضير الارواح ليس الا تحضيرا ل"قرين الميت" نفسه ..

غير أن "جلسات التحضير" ليست الوسيلة الوحيدة للاتصال بالعالم الآخر - ولا حتى تلفون أديسون - حيث توجد طريقة أخرى مشهورة يتنازع ملكيتها الأدباء مع المشعوذين ..

طريقة تعرف باسم الكتابة الأوتوماتيكية أو Automatic Writing يدخل فيها الانسان في حالة من التركيز العميق (بحيث لا يسمع أو يرى مايحدث حوله) ثم يكتب على الورق ما يُملى عليه .. وبعكس جلسات تحضير الارواح قد تظهر الكتابة الاوتوماتيكية من خلال اشخاص غير محترفين يدعون تلبسهم بمن يقود أصابعهم على الورق. وفي هذه الحالة يكتبون بطريقة أسرع (وكأنهم يخشون تفويت شيء مهم) وتأتي خطوطهم مشوشة وناقصة (كمن يكتب وهو مغمض العينين) ...

وقد تكون الكتابة بسيطة (كنصيحة أو وصية أو كشف سر) وقد تستمر على عدة جلسات حتى تصبح كتباً ومجلدات. وأول حالة موثقة من النوع الأخير ظهرت قبل مائة وخمسين عاما حين وضع وسيط روحي يدعى (جوزيف سايلس) كتابا ادعى أن روح الأديب (صامويل أدمز) أملته عليه.. أضف لهذا سبق أن كتبتُ شخصيا عن سيدة من المنصورة ادعت ان روح أحمد شوقي أملتها قصائد جديدة (في سبتمبر 1982 حسب جريدة الاخبار المصرية). وقدمت كإثبات 1000 بيت من الشعر ومسرحية غنائية بعنوان عروس فرعون تضم الخصائص الشعرية لأحمد شوقي .. أما الفيلسوفة الروسية هيلينا بلافيتيسكي فلم تكن تتحرج من الاعتراف بأن مؤلفاتها أُمليت عليها من قبل حكماء عاشوا في التيبت قبل عشرة آلاف عام . أما الكاتب الامريكي جون ادموندز فقد كان مؤمنا بأن جميع مؤلفاته أُمليت عليه من روح الفيلسوف فرانسيس بيكون .. وهناك أدباء معروفون (مثل برنارد شو وفيكتور هيجو ودانتي وديكنز) ادعوا أشياء مشابهة وقالوا إنهم تلقوا بعض مؤلفاتهم من أرواح عظماء متوفين - بعضهم مجهول لديهم تماما !

ورغم كثرة التفسيرات الخارقة (ومنها مسؤولية القرين عما يدور في جلسات التحضير) إلا أنني شخصيا أضع تفسيرا آخر للكتابة الاوتوماتيكية يعتمد على تشبع العقل بالمادة التي يكتبها الانسان في حالة اللاوعي (بما في ذلك تشبعه بأسلوب المفكرين والأدباء الراحلين) . وما يحدث في اعتقادي هو وصول الكاتب الى مرحلة من التشبع والاستيعاب - ثم في مناسبة ما - يكتشف قدرته على محاكاتها أثناء التركيز الشديد والاستغراق العميق.. وهي حالة معروفة في علم النفس باسم "التداعي الحر" حيث تتدفق الافكار وتخرج الكلمات وكأنها مربوطة بحبل طويل (وهو ما ألجأ إليه شخصيا في معظم فترات الكتابة).. وكلما زاد التركيز والاستغراق تدفقت الافكار بسلاسة وسهولة ويصبح القلم مجرد وسيلة لطرق سلسلة طويلة ومتشابكة من الأفكار المتدفقة..

وإذا نظرنا للأمر من هذه الزاوية يصبح بمقدور أي شخص الكتابة بهذه الطريقة بعد قدر معين من التمرين والخبرة..

وإن أردت التجربة بنفسك فما عليك سوى التخلص من كل ما يشتت ذهنك واكتب (بلا تردد) عن أي موضوع أو موقف تعرف عنه الكثير . والمهم هنا هو أن تستعمل الورقة والقلم (فهما في هذا الموقف بالذات أفضل من لوحة المفاتيح) ولا ترفع يدك عن الورق أو تتوقف عن الكتابة لأي سبب - بما في ذلك الأخطاء الإملائية والنحوية التي تكثر بسبب سرعتك غير المعتادة في الكتابة..

إن فعلت هذا سيفاجئك عدد الصفحات التي تكتبها وتنتهي غالباً بورطة طريفة حيث تنتهي أوراقك، وبمجرد قيامك لإحضار المزيد فذلك كفيل بقطع تدفق أفكارك..

إن نجحت بهذه الطريقة ستكتشف أن رسائلك لا تأتي في الحقيقة من (العالم الآخر) بل من أرشيفك العميق والمنسي في عقلك الباطن...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...