الثلاثاء، 30 يوليو 2019

نسبية الآراء الخاطئة


ليس عيباً أن تملك رأياً خاطئاً ، بل أن تملك عقلاً جامداً وآراء ترفض التغيير.. وهذه المعادلة تنطبق حتى على العلماء والمفكرين وصفوة العقول كونهم في النهاية بشراً يصيبون ويخطئون، ينجحون ويفشلون، يصدقون ويكذبون، يحكمون بتجرد أو من خلال الميل والهوى..

فالناس بجميع مستوياتهم نتاج عصرهم وأبناء مجتمعهم وبالتالي ليس غريبا تبنيهم أفكارا ومعتقدات تبدو بمعايير العصور التالية ساذجة وغريبة أو حتى طفولية وغير منطقية!!

ويمكن التأكد من هذه الحقيقة بالعودة للماضي ومراجعة ماكان سائدا ومسلما به في التاريخ القديم.. فحين نفعل ذلك سنكتشف أن كل محاولة للتصحيح تقابلها آلاف الأصوات المعارضة التي تحظى بكثرة الأنصار وزخم الموروث.. كما سنكتشف أن من يحاول تصحيح فكرة خاطئة في زمانه يواجه بمعارضة زملائه وأقرانه قبل عامة الناس (الأمر الذي يفسر لماذا يسبق العظماء زمانهم وتتطلب الأفكار الجديدة وقتا طويلا لتبنيها)!!

ففي مجال الطب مثلا لم يصدق معظم الأطباء بوجود الجراثيم لأكثر من مئتي عام.. ولهذا السبب لم يهتموا بمسألة التعقيم وانتشار العدوى (خصوصا أثناء العمليات الجراحية) الأمر الذي تسبب بوفاة آلاف المرضى نتيجة التلوث والتقاط العدوى من أيادي الأطباء أنفسهم.. ولم يبدأوا بأخذ الجراثيم بجدية إلا بعد ان أثبت لويس باستير (في منتصف القرن التاسع عشر) دورها في ظهور وانتشار الأمراض، وحينها فقط بدأوا بلبس القفازات وتعقيم أدوات الجراحة والتشخيص!!

وفي علم الفلك سيطرت فكرة مركزية الأرض ووجودها في وسط الكون لمجرد عيشنا فوقها. ولم تفكر الأوساط الفلكية بأي احتمال آخر حتى عام 1543 حين أثبت البولندي كوبرنيكوس أننا مجرد كوكب صغير يدور حول نجمة باهتة ضمن بلايين النجوم في الكون.. وحتى بعد إثبات هذه الحقيقة بواسطة التلسكوبات تمسكت الكنيسة الكاثوليكية بالرأي القديم وحاربت من يتبناه بقسوة !!

أما في مجال الجغرافيا فكان الجميع يؤمن بتسطح الأرض وعدم كرويتها وأنها خلقت كالطبق المسطح (لدرجة رفض ملوك أوروبا تموين رحلة كولومبس كونه سيسقط لا محالة من حافتها الغربية).. ورغم تأكدنا اليوم من كروية الأرض إلا أن الاعتقاد بتسطحها كان يبدو مؤكدا لمن يعيش في منطقة صغيرة ولا يدرك أننا مشدودون بفعل الجاذبية وبالتالي وجودها دائما تحت أقدامنا بصرف النظر عن موقعنا الجغرافي!

وفي علم وظائف الأعضاء كانت الحضارات القديمة تعتقد بأن الكبد (وليس القلب) هو من يضخ الدم في الجسم.. وكان أعظم أطباء الأغريق "جالينوس" يعتقد أن الكبد يدفع الدم لبقية الأعضاء كي تستهلكه كوقود.. وأقتضى الأمر قرونا طويلة حتى اكتشف الطبيب العربي ابن النفيس الدورة الدموية ومسؤولية القلب عنها، في حين تأخرت أوروبا حتى اكتشفها الطبيب الانجليزي وليم هارفي عام 1628!!

وحتى في الجانب الديني نعثر على آراء كثيرة إما تعارض المنطق أو تخالف المثبت في حصرنا الحاضر.. فاليهود مثلا ينكرون وجود الديناصورات (وأي مخلوقات منقرضة) بحجة قصر عمر الأرض وعدم وجود نص يؤيدها في التوراة . أما المسيحيون فكانوا يعتقدون أن عمر الأرض لا يتجاوز 6000 عام بناء على ادعاء الفاتيكان بخلق الأرض قبل ميلاد المسيح ب4004 أعوام . أما ابن تيمية فقد حرم قبل 700 عام علم الكيمياء بحجة مضاهاة مايصنعه الكيميائيين لخلق الله (حسب المجلد الأول من فتاواه ، في مسألة: الكيمياء هل تصح بالعقل أو تجوز بالشرع)!!

... وهذه كلها مجرد أمثلة على مواقف قديمة يمكن تفهمها في حال أخذت ضمن سياقها التاريخي والمعرفي في عصرها.. فتطور الجنس البشري لا يتوقف عند زمن معين ، وتقدمنا المعرفي يتراكم من خلال تصحيح الآراء، وتعديل المفاهيم، وتجربة الفرضيات، والبناء على آخر النتائج...

وكلي ثقة بأننا حتى في عصرنا الحاضر نملك مفاهيم كثيرة خاطئة (نعتقد بغرور أنها نهائية أو كاملة) في حين سيتهكم عليها أحفادنا بعد قرن أو قرنين من الآن!!

... المهم فعلاً هو أن نملك دائماً عقولاً مرنة، وأذهاناً متفتحة، وقناعة (ليس فقط بنسبية الأخطاء) بل وبأن العلماء ليسوا أنبياء معصومين منها !!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...