الأحد، 28 يوليو 2019

فكر بالتأمين على حياتك


أخيراً وبعد طول تردد وافقت على عرض قدمته لي إحدى شركات التأمين ضد احتمال الوفاة بحادث مفاجئ (بعيدا عن القراء والسامعين)..

وأقول «أخيرا» لأن علاقتي بالتأمين على الحياة تعود إلى عام 1987 حين كنت في أمريكا ولم أتجاوز بعد السابعة عشرة من عمري. ففي ذلك الوقت لاحظت أن المسافرين في المطارات يأخذون ورقة صغيرة من جهاز غامض (يشبة ماكينة الصراف) قبل صعودهم للطائرة. وبما أنني أتيت من مكان لم يكن يعرف بعد (حتى مكائن الصراف) كنت أتوجس خيفة من ذلك الجهاز.. وذات يوم كنت في مطار دالاس حين جلس بقربي شاب لطيف تجاذب معي أطراف الحديث. وحين اقترب موعد صعودنا للطائرة قال فجأة «أووووه نسيت المرور على الجهاز» فاغتنمت الفرصة وقلت بدوري «أووووه وأنا أيضا»..

وحين وصلنا سألني «كم ستضع فيه» فقلت «ماذا تقصد؟» قال «خمسة أم عشرة أم عشرين دولارا؟».. ولأنه كان يعتقد أننا نحن السعوديون نملك آبار نفط في منازلنا لم أشأ تخييب ظنه فاخترت «العشرين».. وعلى الفور أخرج لي الجهاز إيصالا برقم الرحلة والمقعد وبوليصة تأمين على الحياة بعشرين مليون دولار!!

كان الجهاز ببساطة (يشبة مكائن بيع المعلبات) ولكنه يبيع وثائق تأمين على الحياة تدفع لعائلة الراكب في حالة سقوط الطائرة. ولأن كوارث الطيران نادرة في أمريكا (حيث لا تسقط طائرة أو طائرتين كل عام) غدت الفكرة مربحة لشركات التأمين، وفي نفس الوقت تستحق المغامرة من قبل المسافرين!

على أي حال وكما يثبت هذا المقال انتهت الرحلة بسلام وندمت بعدها على ضياع العشرين دولارا وحرمت التعامل مع هذا الجهاز (الذي سمعت أنه اختفى حاليا بفضل التأمين المباشر على التذاكر).

وهذا الندم الذي ترافق مع شعوري بالخداع يُظهر الفرق بين ذهنيتين مختلفتين بخصوص فكرة التأمين ذاتها.. ففي حين ينظر الرجل الغربي لوثيقة التأمين كصفقة عادلة تحتمل الربح والخسارة ولا يمانع في خوضها نراها نحن هدرا ماليا في مواجهة كارثة نادرة لا تخرج عن قضاء الله وقدره!

فأنت مثلا: هل تدفع عشرين دولارا فقط مقابل 20 مليونا يستلمها ورثتك في حالة سقوط الطائرة (علما أن الاحتمال لا يتجاوز واحدا من كل 120 مليون راكب)!

ولو كنت مكان لاعب مثل كريستيانو رونالدو هل ستدفع خمس مئة ألف دولار في العام، مقابل 45 مليون دولار تستلمها في حال وفاتك أو إصابتك بشكل دائم في أرضية الملعب؟

الفرق بين العقليتين هو ما يجعل البعض لدينا يتهرب من فكرة التأمين عموما (رغم شرعنتها هذه الأيام) ويجعلنا في المقابل نستغرب من تنوعها وانتشارها في الدول الغربية.

ورغم كثرة المصائب التي يمكن التأمين ضدها هذه الأيام إلا أن اتفاقيات التأمين على الحياة وإصابات العمل تعد الأكثر رواجا وانتشارا بين أصحاب المداخيل المتوسطة في الدول المتقدمة.. فهي بدون شك تعتبر (في حال ارتحت لشرعيتها) طريقة مقبولة لضمان دخل مالي كريم في حال إصابتك أو ترك ثروة صغيرة لأطفالك في حال وفاتك المفاجئة.. فنحن ببساطة لا نعرف حين نفكر بتأمين مستقبل أبنائنا إلا بناء عمارة أو شراء قطعة ارض يستفيدون منها مستقبلا؛ ولكن الحقيقة هي أن هناك حلولا تأمينية كثيرة ومضمونة (وأرخص من بناء غرفة فوق السطوح) يمكنها التوافق مع ظروفك المالية ومخاوفك الشخصية!

بدون شك لا راد لقضاء الله؛ ولكن قضاء الله يصبح أخف وطأة حين يتضمن (بوليصة تأمين) تضمن نتائجها.

وفي حال قررت شراء وثيقة من هذا النوع أنصحك بألا تفعل مثلي وتنشره على صفحات الجرائد.. فمن المهم أن يبقى الأمر سرا ولا تخبر به سوى ثلاثة من أقرب الناس إليك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...