الخميس، 2 يناير 2020

الآريوسيون (2-2)


تحدثت في آخر مقال عن الآريوسيين الموحدين، وكيف أنهم كانوا مضطهدين قبل ظهور الإسلام من المذاهب المسيحية القائلة بالتثليث وألهوية المسيح..

كما أشرت الى علم المسلمين الأوائل بوجودهم (قبل أن يختفوا نهائيا هذه الأيام) بدليل التحذير الذي وجهه الرسول الكريم إلى هرقل والمقوقس وبقية ملوك العالم من التعرض لهم في الرسائل الى بعثها إليهم..

وهذا الموقف النبوي العظيم (المتمثل في دفاعه عن الموحدين في الديانات الأخرى) يفسر بدوره الرد الإيجابي والجميل الذي أبداه هرقل والمقوقس على الرسائل التي بعثها النبي الكريم.. فهرقل مثلا كان مدركا لحجم الاضطهاد الذي يتعرض له الآريوسيون، ويعرف شخصيا بقرب ظهور نبي جديد ولكنه (كسياسي) لم يشأ معارضة الأكثرية المسيحية المؤمنة بالتثليث وألوهية المسيح واحتمال انقلابهم عليه.. ودليل ذلك أنه قال لمبعوث الرسول (واسمه دحية بن خليفة): 'إني لأعلم أن صاحبك نبي مرسل، وانه الذي كنا ننتظره ونجده في كتابنا، ولكني أخاف الروم على نفسي، ولولا ذلك لاتبعته، فاذهب إلى ضغاطر (وكان بمثابة بابا الرومان في ذلك الوقت) فاذكر له أمر صاحبكم فانظر ما يقول"..

وذهب دحية بالفعل الى ضغاطر فأخبره بأمر الرسول صل الله عليه وسلم حتى إذا ما انتهى قاله له: "صاحبك والله نبي مرسل نعرفه بصفته واسمه" ثم حمل عصاته وغير ثيابه وخرج على الروم وهم في الكنيسة ينتظرونه فقال لهم: "يا معشر الروم إنه قد جاءنا كتاب من أحمد يدعونا فيه إلى الله عز وجل، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن أحمد عبده ورسوله".. قال دحية: فوثبوا عليه وثبة رجل واحد فضربوه حتى قتلوه.. فلما رجع دحية إلى هرقل وأخبره بقتل القس الأكبر قال: "قد قلت لك إنا نخافهم على أنفسنا فضغاطر كان أعظم عندهم مني"..

أما مقوقس مصر فسمع من حاطب بن أبي بلتعة (مبعوث النبي إليه) ولكنه لم يرد عليه في وقتها.. وبعد عدة أيام استدعاه مجددا وسأله كثيرا عن النبي الجديد والدين الذي يدعو إليه حتى قال: "هذه والله صفته، وكنت أعلم أن نبيا قد بقي، وكنت أظن أن الله مخرجه بالشام حيث كانت تخرج الأنبياء من قبله".. ثم نادى كاتبه ورد على الرسول الكريم برسالة جميلة (لاتتسع المساحة لعرضها) وبعث معه هدايا كثيرة من بينها مارية القبطية وطبيب لعلاج المسلمين!

... بقي أن أشير الى اعتقادي الشخصي بأن النجاشي ملك الحبشة كان أيضا من الأريوسيين الموحدين، الأمر الذي يفسر قول النبي الكريم (إنّ بالحبشة ملكاً عادلاً) وقول النجاشي حين سمع دعوة المهاجرين (إن هذا وما جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة) ثم دخوله في الإسلام لاحقا حسب بعض الروايات التاريخية.. وهذا التناغم بين المعتقدين يجعلني أفترض أن هجرة المسلمين للحبشة لم تكن بسبب اضطهاد قريش (حيث كان يكفيهم الهجرة لأي قرية أو قبيلة أقرب من الحبشة التي يفصلها بحر شاسع عن جزيرة العرب) ولكنه حدث بدافع التقارب العقائدي بين الأريوسيين فيها والموحدين الأحناف في جزيرة العرب.. ويؤيد هذا الرأي أن المهاجرين للحبشة لم يكونوا من الأكثرية المستضعفة (التي عجزت عن الهجرة والسفر) بل كانوا على العكس قلة عزيزة من سادة قريش الذين يصعب اضطهادهم أو التعرض لهم مثل عثمان بن عفان، وعبدالرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وعبدالله بن مسعود، وجعفر بن أبي طالب.

ولأن الأديان والمذاهب تنحسر وتنتشر لم يعد يوجد من الأريوسيين (المسيحيين الموحدين) سوى مجموعات صغيرة لا تكاد تذكر في أميركا وبلاد الشام، في حين عمت عقيدة التثليث المجتمعات المسيحية رغم أنها في الأصل فكرة وثنية رومانية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...