الأحد، 5 يناير 2020

غطاؤنا الأصفر


المقصود في العنوان ليس غطاءنا المالي من الذهب الأصفر؛ بل عن غلبة التصحر وزحف الرمال على ما كنا نسميه حتى وقت قريب "غطاءنا الأخضر".. ففي طفولتي كانت الأشجار أكثر من البشر، والمزارع أكثر من البيوت وتملك كل عائلة بئرها الخاصة في المنزل.. كان يوجد في المدينة شارع يدعى "درب الجناين" تشعر فيه بالبرودة في عز الصيف (حيث كانت الأشجار ومياه المزارع تقوم بدور مكيف صحراوي ضخم) وتحتاج لبطانية في حال قررت الجلوس على أحد جانبيه..

وبالطبع تغير كل هذا اليوم واستبدلنا المكيف الصحراوي بالاحتباس الحراري، وبيوت الطين الباردة بمكعبات الأسمنت الحارة، وأشجار النخيل الجميلة بأعمدة الإضاءة الفظيعة .. أما درب الجناين وحقول البرسيم فتحولت الى طريق ملتهب وسيارات تنفذ عوادم أشد التهابا..

... المفارقة أننا أكثر منطقة في العالم تحتاج الى تشجير أو على الأقل الحفاظ على الموجود منها ومع هذا يسهل علينا اقتلاع أي شجرة اقتضى نموها عشرين عاما لمجرد حجبها للنافذة.. نحرق أشجارنا التي صمدت لقرون في صحراء جافة قاحلة لمجرد (كشتة بر) والتمتع بدفء زائف.. وبدل أن نوفر القليل أو نزرع البديل، نوسع دائرة الصحراء والجفاف بحثا عن المزيد من حزم الحطب وأكياس الفحم!

وبالتأكيد لستم بحاجة لسماع محاضرة عن منافع التشجير وبالتالي سأتجاوز هذه النقطة وأخبركم عما حدث في بقية العالم..

فما يحدث في بقية العالم هو ارتفاع وعي الدول (الخضراء أصلا) بأهمية التشجير وتعويض المناطق الخضراء التي تم تدميرها في القرن العشرين .. والأمر ليس قاصرا على الدول المتقدمة أو المتحضرة حيث نجح العالم في عام 2007 مثلا في زرع مليار شجرة جديدة 700 مليون منها في أثيوبيا و217 مليونا في المكسيك و150 مليونا في تركيا و80 مليونا في اندونيسيا..

وهذه الأرقام أتت ضمن حملة نظمتها الأمم المتحدة في ذلك العام لزرع "مليار" شجرة في العام لمواجهة التصحر والجفاف وارتفاع حرارة الكوكب (في حين لم نسمع نحن بها أصلا).. وحينها تم تحقيق هذا الهدف قبل نهاية السنة بشهرين بفضل مشاركة المواطنين العاديين من كل بلد!

.. وهناك أمثلة كثيرة تثبت إمكانية تحقيقنا نحن "أرقاما قياسية" في حال تنظيم حملات شعبية يشارك بها كافة المواطنين.. فالصين مثلا زرعت سورا من الأشجار الخضراء لحماية حدودها الشمالية من التصحر وهبوب العواصف الرملية. ورغم أنه يمتد لأكثر من خمسة آلاف كلم إلا أنه أنجز خلال عامين بفضل تكفل كل فرد بزرع خمس شجرات (وكتبت عنه مقالا خاصا بعنوان سور الصين الأخضر).. وفي عام 1998 زرع المواطنون في مدينة ساهارا الهندية 125 ألف شجرة خلال أسبوع بعد مهرجان شعبي نظم لهذا الغرض .. وفي مدينة كيلونا (في مقاطعة كولومبيا الكندية) أخذ المواطنون إجازة ليوم واحد زرعوا خلاله 134 ألف شجرة .. أما الرقم القياسي للفرد فيحتفظ به الكندي كن شابلن الذي زرع 15,170 شجرة في يوم واحد في مقاطعة ساسكاتشيوان عام 2001 ..

في حال عملنا مثلهم يمكننا زرع أكثر من 100 مليون شجرة في العام إن تكفل كل مواطن بزرع خمس أشجار في السنة.. ورغم اعترافي أننا نعيش في بلد يعاني من شح المياه يمكننا بقليل من أعمال السباكة المبتكرة تحويل مياه المطبخ (مثلا) لسقي أشجار المنزل، ومياه المسجد لسقي أشجار الحي، ومياه المسابح والاستراحات والصرف الصحي لإنشاء حزام أخضر يحيط بالرياض أو جدة والدمام !

.. وحتى يرزقنا الله ب(سباك مخلص) أتساءل عن النتائج الاقتصادية والإستراتيجية المترتبة على تدمير غطائنا النباتي.. عن مسؤولية مكعبات الاسمنت وطرق الإسفلت والانبعاث الحراري للسيارات والمكيفات في رفع حرارة أجوائنا الى ما يفوق الخمسين درجة مئوية ..

.. ويقولون ليش السعوديين يصيفون في الخارج..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...