الأحد، 5 يناير 2020

يكفي تلفزيون


التلفزيون (الممثل الأقدم لكافة الشاشات المضيئة) أصبح اليوم حقاً مشاعاً حتى لأشد الأسر فقراً.. يتلقى من خلاله الجميع إيحاءات وتوجيهات تُغير آراءهم وتشكل أفكارهم دون وعي منهم.. وفي حين يقول كارل ماركس "الدين أفيون الشعوب" أقول أنا "والتلفزيون المهرب الذي يحمل لبيوتنا كافة أنواع المخدرات"..

قرأت ذات يوم إحصائية مفادها أن السعوديين يقضون أمام التلفزيون قرابة أربع ساعات في اليوم الواحد (أتوقع ارتفاعها لأكثر من ذلك أوقات الإجازات ومواسم السهر). وتزيد نسبة المشاهدة لدى الإناث عن الذكور، ولدى الصغار عن الكبار، لأسباب تتعلق بطبيعة المجتمع ذاته.. وأطفالنا بالذات يقضون نصف إجازتهم الحالية أمام البرامج الكرتونية أو الشاشات المضيئة..

وهناك بالتأكيد أضرار نفسية وأسرية واجتماعية مترتبة على متابعته لساعات طويلة (تحتم علينا تقنين أوقات المشاهدة وتثقيف الطفل باختلاف ما يشاهده عن الحقيقة والواقع)..

أما بخصوص تأثير التلفزيون على حياتنا عموماً ومدى التغيرات التي أدخلها على مجتمعنا فيمكننا تخمينه من خلال مقارنة أسلوبنا في العيش هذه الأيام مع أجدادنا في سالف الأيام:

ففي الماضي مثلاً (أيام جدي وجدك) كان الناس بالكاد ينتظرون صلاة العشاء كي يغطوا في نوم عميق، أما اليوم فأصبح من المعتاد تجاوز هذا الوقت والبقاء أمام التلفزيون حتى صلاة الفجر..

وفي الماضي كان الناس وأفراد العائلة يتحدثون ويتواصلون بنسبة أكبر لتوفر مساحة كبيرة من الوقت، أما اليوم فاحتكر التلفزيون أوقات الفراغ وأصبحت العائلات تجتمع أمامه "وكأن على رؤوسها الطير" ..

في الماضي كان الناس أكثر صحة ورشاقة لأنهم يتحركون بنسبة أكبر ويتوقفون عن الأكل بعد صلاة العشاء مباشرة واليوم أجبرهم التلفزيون على الخمول والسهر وتناول عدة وجبات قبل صلاة الفجر..

أيضاً في الماضي كان الأطفال يتلقون تربيتهم وأخلاقياتهم بل وحتى لغتهم الصحيحة من الوالدين والأقرباء المباشرين، أما اليوم فتحولوا إلى "أنترناشيونال" تصوغ مبادئهم المحطات الفضائية والقنوات "المهضومة"..

وفي طفولتي كان التلفزيون السعودي يغلق أبوابه في الثانية عشرة ليلا ولا "يفتح" قبل الثانية عشرة ظهراً.. واليوم يمكن لأطفالنا مشاهدة أكثر من ألفي قناة تبث24 ساعة الديني والطائفي والمتشدد والعنيف والفاسد والشاذ والمخالف لأخلاقيات المجتمع..

كل هذا ولم نتحدث عن مسؤولية التلفزيون عن تفشي السمنة والسكري وأمراض القلب وانسداد الشرايين (وجميعها تملك دراسات مؤكدة بهذا الجانب سببها الأول الكسل وخمول الدورة الدموية)...

ولأنني شخصياً (مدمن أفلام وثائقية) لا أرغب بالظهور بمظهر الناصح أو المتحسر على "أيام زمان" .. كل ما أريده فقط هو إيضاح القوة الجبارة لهذا الجهاز العجيب وكيف عجزت كافة الثقافات العالمية عن الوقوف في وجهه أو الحد من تأثيره.. فالتلفزيون (الممثل الرئيسي لجميع الشاشات المضيئة بما في ذلك الآيباد واللاب توب والهواتف الذكية) صهرت الحضارات وخلطت الثقافات وصقلت الأجيال ضمن هوية عالمية موحدة .. حيرت ساعاتنا البيولوجية ودمرت أنظمتنا العصبية وفاقمت أزماتنا النفسية.. ولأنها تستمد قوتها من ميزة التواصل والاطلاع والانفتاح على الشعوب والثقافات الأخرى (بدون أن نحرك عضلة) يصعب الوقوف في وجهها أو الحد من تأثيرها مهما بلغت الحجج والمبررات.. ولأنني شخصياً أعي هذه الحقيقة لا أطمع بأكثر من (يوم) تطفأ فيه كافة الشاشات وتتعرف فيه العائلات على متعة الحديث الهادئ مع بعضها البعض..!!

اتفقوا على يوم في الأسبوع بلا تلفزيون أو جوالات أو كمبيوترات أو شيء يتضمن شاشة مضيئة!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...