الخميس، 2 يناير 2020

عقولنا الصغيرة


في كل يوم تُجرى حول العالم آلاف العمليات لزراعة قلوب وكلى وأكباد وأعضاء كثيرة..

أعضاء نشعر أنها ليست مادية فقط، بل وتعمل كمخازن للعقل والمشاعر والعواطف فنعبر عن ذلك بقولنا قلبي مهموم، أو مرارتي مفقوعة، أو أطفالنا أكبادنا تمشي على الأرض.. ناهيك عن قوله تعالى (فتكون لهم قلوب يعقلون بها)..

وقبل فترة شاهدت فيلماً وثائقياً بعنوان "الذكريات المستعارة" اعترف خلاله المتلقون بأنهم يرون ذكريات تخص المتبرعين المتوفين. ومن خلال هذه الشهادات أصبح الأطباء على قناعة بأن عمليات نقل الأعضاء لا تتضمن فقط نقل القلوب والكلى بل ونقل ذكريات وميول المتبرعين بشكل جزئي إلى المتلقين..

وقبل فترة اعترف المركز الطبي في جامعة أريزونا بوجود هذه الظاهرة واستعرض أمثلة كثيرة حولها.. فهناك مثلاً طالبة تدعى جمي شرمن خضعت لعملية نقل قلب من متبرع مجهول. وبعد العملية أصبحت شغوفة بالمباريات الرياضية وتناول الطعام المكسيكي الذي كان من أولويات المتبرع السابق..

ويقول الدكتور كبلاند (الذي أجرى العملية) خلال الخمسة والعشرين عاماً الماضية أجريت أكثر من 700 عملية نقل قلب تحدث أصحابها عن تلقي مشاعر وأحاسيس جديدة. وتصبح هذه الظاهرة أكثر قوة ووضوحاً كلما اختلفت الاهتمامات وتفاوتت الميول بين المتبرع والمتلقي..

وهذه الظاهرة التي أصبحت معترفاً بها جزئياً كانت محوراً لأفلام هوليودية كبيرة.. ففي فيلم "العين" مثلاً تخضع فتاة عمياء لعملية زرع قرنيتي رجل متوفى مقتول.. وبعد أن تبصر ترى ومضات (وفلاشات من ذاكرة قديمة) تخص الرجل نفسه وكيف مات بطريقة بشعة على يد عصابة صينية.. وهكذا تدخل في مشكلة لم تتوقعها حيث تسمع العصابة بادعاءاتها فتحاول قتلها خشية فضح أمرها...

ومن الحالات التي يتذكرها الدكتور كبلاند حكاية مريض تعرض لعملية نقل قلب فتغيرت حياته جذرياً. فقبل العملية كان رجل أعمال بخيلاً لا يهتم بالأعمال الخيرية ولا يمارس الرياضة ولا يتابع أخبارها. إلا أنه تغير تماماً بعد العملية فأصبح أكثر كرماً ونبلاً ويبدي اهتماماً بالمعوقين كما أصبح عاشقاً للسيارات الرياضية ويبكي حين يسمع ألحان المغنية سايد التي لم يسمع بها من قبل.. والأغرب من هذا أنه كان يملك شعوراً قوياً بأنه تلقى قلب شاب توفي في حادث سيارة لكنه لم يستطع التأكد من هذا الأمر حتى علم أن المتبرع شاب يعمل لدى استديوهات ينفرسال كممثل بديل. وكان مهووساً بالسيارات الرياضية وتوفي هو نفسه بسبب انقلاب سيارته أثناء تصوير أحد المشاهد الخطيرة.. الغريب أكثر أنه حين التقى بشقيق المتبرع أخبره بأن شقيقه المتوفى كان يعشق أغاني سايد ويبكي عند سماعها!!

... أنا شخصياً لا أنكر أن معظم مواهبنا العقلية والذهنية توجد في جماجمنا وداخل رؤوسنا.. ولكنني أيضاً على قناعة بأن لأعضائنا الحيوية الباطنية ذاكرة جزئية، ومهام عصبية، تجعلها بمثابة "عقول صغيرة" تعمل بشكل مستقل عن الدماغ بدليل الشبكة العصبية للجهاز الهضمي التي يدعوها علماء الأعصاب "دماغ الإنسان الثاني"!!

ويفهمني أكثر من ابتلي بالقولون العصبي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...