الخميس، 2 يناير 2020

القرين


في المجتمعات المسيحية يؤمن الناس بوجود ملاك حارس أو guardian angel يولد مع الإنسان ويعيش بعده عمراً طويلاً.. وإن كنت متابعاً جيداً للأفلام الأميركية ستتذكر جملاً تؤكد وجوده كأن يقول أحدهم "أنقذني ملاكي الحارس في الوقت المناسب.. وكما يملك كل إنسان ملاكاً حارساً تملك كل عائلة ومجموعة مهنية (كنقابة الصيادين) أو أمة كاملة (كأميركا) ملاكها الحارس!!

أما في المجتمعات الإسلامية فيؤمن الناس بفكرة الشيطان القرين الذي يرافقه كظله ولا يكف عن محاولة إغوائه وأمره بالخطايا.. وهو من شياطين الجن المخلوقين من النار والمقصود بقوله تعالى(وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ) وقال عنه رسولنا الكريم (مَامِنْكُمْ أَحَد إِلا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينه مِنْ الْجِنّ، قَالُوا: وَإِيَّاكَ؟ قَالَ: وَإِيَّايَ إِلاَّ أَنَّ اللَّه أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ).. وفي رواية لمسلم (إلا وقد وكِّل به قرينُه من الجنِّ وقرينُه من الملائكة) الأمر الذي يعني وجود قرينين لكل إنسان؛ واحد من الجن، والآخر من الملائكة...

وفكرة القرين كانت معروفة لدى الفراعنة والصينيين والهنود قبل ظهور الأديان السماوية الثلاثة.. فالفراعنة مثلاً كانوا يؤمنون بوجود نسخة خفية للإنسان تتجول حوله وتسكن داخله وتتحدث معه بطريقة صامتة. كانوا يسمونها (كا) تولد معه وتقوم بتوجيهه وحمايته حتى إذا ما مات جلست على قبره إلى الأبد وهي فكرة أقرب للأشباح منها للأرواح...

أما الصينيون فيؤمنون بوجود القرين الخفي الذي ينمو داخل الإنسان ويتلبسه إلى نهاية العمر (وهي فكرة أقرب للروح). ورغم أنه أكثر التصاقاً به ويموت داخله بعكس القرين الفرعوني يملك شخصية مستقلة قد تكون طيبة أو شريرة تظهر من خلال الإنسان..

وفي حال تتبعنا الاعتقادات الفلكلورية حول العالم نلاحظ أن معظمها يفترض وجود (شيطان خاص) يرافق الإنسان ويولد معه ويوسوس له.. في حين هناك شيطان عام أزلي ومشترك يوسوس لجميع الناس ويُحمله الناس بدورهم مسؤولية خطاياهم وأفعالهم الشريرة!!

... وكثيراً مايكون هناك تداخل بين مفهومي "الروح" و "القرين".. فالهنود مثلاً ينظرون للقرين بمثابة روح أزلية تحل في جسد الإنسان فور ولادته ثم تغادره بعد وفاته لتحل في جسد جديد.. وهي الفكرة المعروفة بتناسخ الأرواح وتؤمن بها أيضا الشعوب البوذية ويعيدون لها شعورنا المبهم بالتواجد قديماً في أماكن نزورها لأول مرة في حياتنا.. فالروح الواحدة تنتقل حسب رأيهم من جسد لآخر عبر أجيال طويلة حتى تضعف في النهاية وتتلاشى بطريقة غامضة (وأقول غامضة لأنني سألت كاهناً بوذياً عن عدد الأجساد التي تدخلها ومصيرها في النهاية فأخبرني بأن لا أحد يعرف الجواب.. حتى الكهنة الذين وصلوا للمستوى الرابع من الحقيقة)!!!!

... أما خارج التفسير الديني والروحاني فهناك علماء النفس الذين يقسمون شخصية الإنسان إلى (أنا عليا) و (أنا سفلى) و (ذات مرئية)..

الأنا العليا هي الضمير والقيم والأخلاق والقوانين (وجميعها تقود الإنسان للخير وتعد بمثابة القرين الطيب له).. أما الأنا السفلي فهي الشهوة والأطماع والغرائز البدائية (التي تقوده للخطايا وتعد بمثابة القرين الشيطان أو النفس الأمارة بالسوء).. أما الذات النهائية فهي الشخصية الظاهرة في الإنسان ومحصلة صراعه بين الأنا العليا والسفلى فيه...

وبحسب علم النفس؛ ظهرت فرضية "القرين الشرير" أو "الشيطان الموسوس" كمحاولة لتفسير نزعات الشر والأنا السفلى داخل كل إنسان.. تبلورت بسبب صراعه الدائم بين الضمير والأخلاق وفعل الخير من جهة وشهواته وخطاياه وأطماعه الشريرة من جهة أخرى!

... على أي حال؛ لاحظ أن اختلاف وجهات النظر هي بحد ذاتها إثبات وإقرار وتأكيد على امتلاكنا ثلاث شخصيات انفصامية.. الأولى خفية توسوس بالشر، والثانية مثالية تأمرنا بالخير، والثالثة ظاهرية تحاول التوفيق بين الطرفين ونلبس لها أفضل "قناع" ممكن!!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...