الأربعاء، 8 يناير 2020

علم نفس الحشود.. وعلم حركة السوائل


التعامل مع الحشود البشرية الهائلة يكاد يكون مستحيلاً.. فالحشود نفسها لا تتحكم بنفسها وتتحرك كموجات ضخمة لا يمكنها التوقف حتى إن أرادت ذلك.. جربت أنا ذلك في أكثر من مناسبة سواء في مكة أو المدينة (ولا يمكنك فهم قصدي مالم تكن قد مررت بمثلها في أحد الحرمين الشريفين).. فقبل خمسة عشر عاماً كدت أفقد ابني حسام تحت أقدام الخارجين من صلاة العيد في المسجد النبوي.. كنت أحمل ابني الثاني فيصل (سنتان) وكان آلاف الناس يدفعونني بقوة هائلة رغم سقوط بعض المسنين أمامي.. حاولت عبثاً تنبيههم للتوقف حتى سقط حسام بدوره (وكان في الخامسة) لولا أن سخر الله له رجل مصري عملاق سحبه بقوة ورفعه فوق أكتافه...

الحشود البشرية تتصرف كنهر هادر أو سيل كاسح لا يمكنه التوقف ولا يسعه سوى جرف كل شيء في طريقه (لهذا أعتقد أن تصرفات الحشود تنطبق عليها قوانين الهيدروليكا أو حركة السوائل).. حين تكون بينهم ستشعر بقوى خارقة تدفعك (هي محصلة حركة آلاف الناس خلفك) بحيث تعجز عن التوقف أو عدم التقدم. تشعر بقوة هائلة لدرجة ترتفع قدماك عن الأرض وتستمر بدورك بدفع الناس أمامك بل ودهسهم والركوب فوقهم حتى إن كانوا من الأطفال والنساء والمسنين.. لا يمكنك أن تأمرهم بالتوقف لأن مامن أحد سيسمع صوتك وما من أحد في "الخلف" يعلم بحجم المأساة التي تحدث في "الأمام" فيبدأ الدهس ويرتفع الناس فوق بعضهم كهرم بشري ميت (قد يتجاوز أربعة أمتار كما حدث في نفق المعيصم عام 1410)...

هذا ما كنت أعنيه حين تحدثت في آخر مقال عن حادث منى وقلت إن تصرفات الحشود لا يمكن التحكم بها ولا يمكنهم هم التحكم في أنفسهم ولا مجال سوى تقدمهم بخط مستقيم ضمن مجال مفتوح (لا يضيق ولا يتقاطع ولا يخرج من بوابة أصغر من المسار نفسه).. يمكنك تشبيه الأمر بالازدحام المروري في دائري الرياض الذي يزداد تأزماً حين يضيق الخط فجأة، أو ينعطف فجأة، أو يتوقف بسبب تقاطع بشكل حرف T.

غير أنك (في الازدحام المروري) تكون داخل سيارتك سالماً مرتاحاً تملك حرية التنفس، في حين ستتعرض للاختناق والإعياء إن كنت بين حشود هائلة من الناس (ولا تملك حتى مساحة للوقوف إن سقطت تحت أقدام الناس)...

هذا من جهة علم الهيدروليكا..

أما من جهة علم نفس الحشود؛ فالناس (كمجموعات) يتصرفون بطريقة مختلفة عن تصرفهم كأفراد.. فالأفراد يجاملون بلطف ويتصرفون بوعي ويقدمون الضعفاء على أنفسهم، بينما الحشود تتصرف كموجات جماعية تسيرها المخاوف والإشاعات وحين يتملكها الهلع يعلو القوي منها الضعيف (وابحث في النت عما يعرف بعلم نفس الحشود)!

لهذا السبب أشرت في مقالي السابق إلى أن تلافي حوادث التدافع (في المشاعر المقدسة) لا تحله فقط مشروعات التوسعة، بل وأيضاً التخفيف من تواجد الحشود والاعتراف بأن المكان لم يعد يستوعب المزيد من البشر...

في زمن الملك عبدالعزيز لم يكن حجاج الخارج يتجاوزن العشرين ألف حاج.. غير أن سهولة السفر وتوسعة المشاعر (وارتفاع عدد المسلمين أنفسهم) جعل العدد يفوق المليونين هذه الأيام.. وبطبيعة الحال كلما فتحنا الباب أكثر ستأتي أعداد أكبر وتعجز بالتالي مشروعاتنا وتوسعاتنا السابقة عن استيعابهم..

وفي حين لم تعرف أوروبا كيف تتصرف مع مئة ألف لاجئ سوري طوال الأربعة أشهر الماضية..

وفي حين لم تجد تركيا والمجر والنمسا حلاً غير إغلاق حدودها أمامهم..

وفي حين عجز العراق عن استقبال خمسين ألف مواطن من محافظة صلاح الدين نزحوا فجأة لبغداد فمات كثير منهم من العطش والإرهاق...

نستقبل نحن مليوني زائر خلال ثلاثة أيام فقط في نجاح سنوي يتكرر دون أن تتحمل الدول الإسلامية عبئاً يُذكر...

وكي تكون صفحتنا بيضاء على الدوام؛ أعود وأقول إن مليوني حاج (كثير جداً) على بقعة جغرافية صغيرة كمنى لم تكن قبل الدولة السعودية تشهد أكثر من عشرين ألف حاج.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...