الخميس، 2 يناير 2020

مُلزمون بالنص وليس ما فهمه أسلافنا من النص


عثرت على مقطع قديم من برنامج "إضاءات" سألني فيه الاستاذ تركي الدخيل عن أسباب قناعتي بوجود كواكب أخرى في الكون، فاستعرضت عددا من الأدلة الفلكية والعلمية والشرعية من بينها قوله تعالى: (اللَهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ).. غير أنه قاطعني قائلا: ولكنهم فسروا هذه الآية كسبع أراضين تحت الأرض؛ فقلت: نحن مُلزمون بالنص وليس ما فهمه أسلافنا من النص..

وهذه الجملة تختصر مقال اليوم كوننا ملتزمين (بكلام الله) وليس ما فهمه غيرنا من كلام الله..

ففي الماضي مثلا، كان الجميع يعتقد أن الأرض كوكب وحيد واستثنائي فلم يجدوا غير الاعتقاد بوجود السبع أراضين تحت أقدامهم.. وشجع هذا الفهم قوله تعالى (خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً) ولكن القرآن الكريم لا يتضمن آية واحدة تتحدث عن سبع أراضين طباقا - في حين أن معنى الآية الأولى يصح مع وجود سبع أراضين موزعة في أرجاء الكون.. ويؤيد هذا تفسير ابن عباس لنفس الآية حيث قال: هي سبع أراضين فيها آدم كآدم وموسى كموسى وعيسى كعيسى ومحمد كمحمد (رواه البيهقي في الأسماء والصفات)!

.. على أي حال؛ مقالنا اليوم ليس معنيا بوجود كواكب غيرنا في الكون؛ بل في أن التزامنا بالنص لا يعني بالضرورة التزامنا بتفسير النص (فهناك فرق كبير بين الاثنين).. فالنص كلام الله المنزل والثابت والملزم، في حين أن "التفسير" فهم بشري متغير وتصور قد لا يتفق عليه الجميع - ولهذا السبب اختلف المفسرون في الماضي واستمر تأليف كتب التفسير في الحاضر!

وكان علماء الفقه قد وضعوا قاعدة تفيد بأن «الحكم على الشيء فرع عن تصوره».. وهي قاعدة تصح حتى على تصورنا لمعاني الآيات وتفسيرها.. فالخلفية الشرعية والمذهبية للمفسر - والثقافة والزمن الذي يعيش فيها قارئ القرآن - تؤثر بلا شك في فهمه وحكمه وتصوره لمعاني الآيات الواردة فيه..

خذ كمثال النصوص التي تتحدث عن المرأة وكيف تفسر أحيانا بطريقة دونية في حال نشأ المفسر في بيئة تعتبر الأنثى أدنى من الذكر، وأحيانا بطريقة راقية تساويها بالرجل في حال نشأ في بيئة أجنبية أو متحضرة تساوي حقوق الانسان..

وخذ كمثال آخر من فسر قوله تعالى (يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله) بأنه الغناء في حين أن هناك تفاسير (أعم وأشمل) تقول بأنه: كل ما يُلهي عن ذكر الله سواء أكان غناء أم شعرا أم خطابة أم قصة مع وجود شرط ونية مسبقة هي الإضلال عن سبيل الله (ويا ليت تراجع كتب التفسير قبل التعليق على هذه النقطة)!

وخذ أيضا آية الجلباب (يدنين عليهن من جلابيبهن) التي لم تتغير منذ نزولها؛ ولكن اختلف فيها المفسرون بحسب مدارسهم الفقهية وما كان شائعا في بلدانهم من أنواع الجلابيب والثياب - وفي حين استدل البعض بنفس هذه الآية على عدم تغطية الوجه أصلا كون الجلباب يلبس على الكتف أصلا وكان يمكن للآية أن تتحدث عن "الوجه" بكل بساطة!!

.. ومرة أخرى أشير إلى أن حديثنا اليوم ليس عن الكواكب أو الحجاب أو الغناء بل عن ضرورة التفريق بين النص الإلهي (الثابت والمقدس) وبين التفاسير البشرية غير الملزمة لمن لم يقتنع بها.. يؤكد ذلك حقيقة أن الرسول الكريم لم يفسر القرآن بنفسه ولم يشرح ما غمض منه في عصره - ناهيك عن نزوله بلسان عربي مبين يفترض بعامة الناس فهمه..

والحقيقة هي أن بيان القرآن ووضوحه لا يسمحان أصلا باختلاف الأفهام وتعدد التفاسير خصوصا فيما جاء صريحا ومباشرا (وخذ كمثال تحريم الخمر والزنا ولحم الخنزير). ولكنه في المقابل يترك لنا حرية تصور مالا يتعلق بالتشريع وأساسيات الدين (كتصورنا لشجرة الزقوم، ورؤوس الشياطين، وجناح الذل، ولهو الحديث، والأراضين السبع، واختلاف الجلابيب التي يلبسها الناس حول العالم).

.. وكل هذا.. بأسلوب إخباري غير ملزم وغير ثابت يراعي تغير القرون وتعدد الثقافات وتوسع العلوم..

وهذا بالضبط ما يجعل القرآن صالحاً لكل زمان ومكان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...