الأربعاء، 4 ديسمبر 2019

مجاهدون داخل المختبرات


مالا يعرفه معظمنا أن نصف ضحايا فيروس الكورونا وإنفلونزا الخنازير (أيام انتشارهما لدينا) كانوا من الوسط الطبي.. أطباء وممرضين وممرضات أصيبوا أو ماتوا دون أن يعرفهم الناس أو يتذكر أسماءهم أحد.. واحتمالات كهذه لم تكن غائبة عنهم ولكنها ضريبة متوقعة من مهنة تتطلب مخالطة ليس مريضا واحدا فقط بل عدد كبير من المصابين بأمراض معدية خلال اليوم الواحد (لدرجة كنت أقول دائما لأم حسام لا شيء يخيفني مثل البالطو الذي تعودين به الى المنزل)!

وبطبيعة الحال شهادتي بالأطباء مجروحة كون معظم أفراد عائلتي يعملون في المجال الصحي ولكنني فقط أتساءل إلى أي حد يمكن للطبيب أو العالم النبيل التضحية بنفسه من أجل الآخرين!؟

هذا السؤال خطر ببالي وأنا أقرأ قصة طبيب عرض نفسه للخطر للتأكد من مسببات الحمى الصفراء في القرن التاسع عشر.. طبيب يدعى ستيبن فيرث عاش في فيلادلفيا ولاحظ أن الحمى الصفراء تأتي في فصل الصيف وتختفي في فصل الشتاء. ومن هنا اعتقد أنها مرض "غير معد" وربطها بالمناخ السائد في بعض البلدان. وللتأكد من هذه الفرضية جرح ذراعه ووضع داخل الجرح قطرات من قيئ أحد المرضى .. وحين لم يصب بالمرض جرب وضعها في عينيه وأنفه وأذنيه فلم يصبه شيء أيضا .. ثم جرب وضع قطرات إضافية من لعاب ودماء وبول المرضى فلم يصب أيضا بالمرض!

وحين شكك بعض الأطباء في تجاربه انتظر عقد المؤتمر الطبي السنوي في فيلادلفيا وقام بأغرب حركة يمكن تصورها في تاريخ الطب (شرب أمام الحضور قيئ أحد المرضى المتوفين)!

واليوم يدرك الجميع أن فيرث كان رجلا محظوظا لأن الحمى الصفراء مرض معد بالفعل ولكنه يتطلب "بعوضة" تنقل جراثيم المريض إلى تيار الدم (وهذا سر انتشارها في المناطق الحارة بالذات). ومع هذا ساهمت تجاربه في إقناع المجتمع الطبي بضرورة البحث عن الأداة الناقلة للمرض (وهي البعوضة في هذه الحالة) وتجاهل طرق العدوى التقليدية بواسطة التنفس وسوائل الجسم مثلا !

وما فعله بيرث مجرد نموذج لمواقف ومناسبات كثيرة ضحى فيها الأطباء بأنفسهم لإنقاذ حياة الآخرين ؛ فهناك مثلا الطبيب الانجليزي إدوارد جينر الذي تأكد من فعالية لقاح الجدري من خلال حقن ابنه الصغير بجراثيم المرض.. فمن خلال مراقبة من نجوا من الجدري أصبح على قناعة بأن من يصاب به صغيرا لا يصاب به كبيرا.. وكي يتأكد من هذه الفرضية، ولأنه لم يجد من يقبل حقنه بميكروبات الجدري، حقن ابنه بقيح بقرة مصابة فأصيب بحمى شديدة سرعان ما شفي وأصبح قويا ومحصنا ضد المرض (وابحث في النت عن مقال: مالا يقتلك يقويك).

أما البولندية مدام كوري (وهي في الأصل فيزيائية اكتشفت مادة الراديوم المشعة) فتوفيت بسبب تجاربها في مكافحة الأورام الخبيثة باستعمال النشاط الإشعاعي .. والكيميائي السويدي كارل شيل مات متسمما عام 1786 بسبب حرصه على تذوق المواد الكيميائية المحتمل استعمالها لمكافحة الأمراض.. أما الألماني روبرت بانسن فتوفي بسبب المضاعفات التي تعرض لها خلال ستة وخمسين عاما من التجارب على العقاقير الكيميائية المختلفة .. وهناك أيضا طبيب شاب (لا أذكر اسمه الآن) كان أول من فكر باستعمال "القسطرة" لعلاج مشاكل الدورة الدموية . وحين فشل في إقناع أساتذته أو العثور على متطوعين لتجربة هذه الوسيلة المجنونة قرر تجربتها على نفسه. وأخطر محاولة قام بها كانت إدخال أنبوب طويل مرن من وريد الفخذ (حتى وصل به إلى حدود القلب) ثم خرج يبحث عن بقية الأطباء لإثبات وجهة نظره!

نعم ؛ قد أكون متحيزا للأطباء والعلماء الذين ساهمت تجاربهم في إنقاذ حياة ملايين الناس حول العالم ولكن؛ من سمع منكم أنتم بمُتفيهق واحد فقط من دعاة النت والمحطات الفضائية ضحى بنفسه، أو مات شهيدا عن وطنه، أو تسلل للدفاع مثلا عن بيت المقدس!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...