الثلاثاء، 1 أكتوبر 2019

أمام الطاغية يصبح التوقف عن التصفيق لحظة مصيرية


شاهدت لقطة على اليوتيوب يدخل فيها رئيس كوريا الشمالية (كيم جونج إيل) للبرلمان وسط عاصفة من التصفيق.. كان أعضاء البرلمان يتنافسون على فعل ذلك بحماس طمعاً في السلامة.. فقد سبق أن تم سجن وفصل وإعدام أشخاص لم يصفقوا أو يحزنوا أو يبتهجوا بالقدر المناسب.. فبعد وفاة والده الديكتاتور مثلا تم سجن 1700 مسؤول ومواطن لم يظهروا أمام الكاميرات باكين أو حزينين بمستوى الكارثة الوطنية. وكان آخر ضحايا "قلة التصفيق" زوج عمته الذي أعدم في ديسمبر الماضي بحجة الخيانة (والدليل) تأخره في التصفيق والقيام من كرسيه فور دخول الزعيم الأعظم!

.. حين شاهدت اللقطة السابقة تذكرت فوراً برلمان بشار الأسد ومن قبله ستالين وكاسترو ونيازوف وكل دكتاتور يصبح التوقف عن التصفيق أمامه لحظة مصيرية تحدد مستقبل العضو السياسي (وبالتالي لا يجرؤ أحد على التوقف حتى يأمر هو بذلك)!!

.. وفي الحقيقة يمكنك تخمين مستوى الديمقراطية في أي بلد من خلال مستوى التصفيق الذي يواجه به رئيسها؛ فكلما خف الحماس دل ذلك على ديموقراطية الحكم، وحرية التعبير، وتعددية المعارضة.. بل قد يصل الأمر في الديمقراطيات العريقة حد التصفيق على الطاولات (كعلامة استهجان) أو الامتناع عنه تماماً (كما يفعل أعضاء الحزب المعارض في الكونجرس مع أوباما) أو التصفيق ببطء وكسل كعلامة استخفاف وإهانة (كما حدث حين حاول توني بلير تبرير تدخل بريطانيا في العراق حيث لم يتوقف بعض الأعضاء عن التصفيق بحركة بطيئة دون إصدار صوت)!!

على أي حال؛ ليس كل تصفيق يدخل تحت مظلة السياسة والديموقراطية.. فهناك من يصفق إعجاباً أو طرباً أو استحساناً أو تشجيعاً.. وكل هذا يأتي كرد فعل تلقائي (وفائض طاقة) ينجم عن ارتفاع مستوى هذه المشاعر بدليل اشتراك كافة البشر بحركة الصفق ذاتها..

أيضاً يمكن أن يتحول التصفيق إلى فعل اجتماعي متعلم ومقصود كما في البرلمانات المصطنعة، أو حين يقدمه الجمهور تقديراً للضيف أو إعجاباً بأداء معين (في حين توظف الاستوديوهات من يؤشر للجمهور للتصفيق خلال البرنامج)!!

الحقيقة هي أن التصفيق يبدأ لدى الإنسان حتى قبل الكلام ذاته؛ فالأطفال الرضع لو تذكرت

جيداً يصفقون بأيديهم حين يرون وجوه أمهاتهم، ويعبرون عن غضبهم أو سعادتهم أو شعورهم بالشبع بنفس الطريقة.. وهو قديم (من وجهة نظر تاريخية) قدم الإيماءات الجسدية التي يُقصد منها إيصال رسالة معينة.. ففي الإمبراطورية الرومانية مثلاً كان الناس يصفقون للاستحسان، ويطقطقون أصابعهم للتشجيع، ويضربون أفخاذهم للاستهجان.. أما العرب فكانوا يصفقون أثناء طوافهم حول كعبات مكة وثقيف ونجران وغطفان وذي الخليص كنوع من الطقوس التعبدية.. أما المجوس فكانوا يصفقون للنار أثناء ركوعهم لها ويخصصون من يفعل ذلك على الدوام في حين مايزال التصفيق مرافقاً لجلسات الزار وحلقات الذكر لدى بعض الدراويش والمتصوفة!

وكل هذا يثبت أن التصفيق (وبما أنه ليس كلاماً يفهم بذاته) يعبر في كل مناسبة عن سياق الموقف الموجود فيه وبالتالي لا يمكن إصدار حكم موحد بشأنه.. ورغم أن بعض الفقهاء حرموه أو كرهوا فعله لا يوجد نص شرعي واحد يؤيد حرمانيته بل على العكس يوجد نص يجيز للنساء فعله بغرض التنبيه في الصلاة..

أقول هذا وأنا شخصياً أفضل تحريمه على تقديمه لطغاة أمثال كيم جونج وعصابته.. وابحثوا عن اللقطة في اليوتيوب لتفهموا قصدي..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...