الاثنين، 7 أكتوبر 2019

قضايا باردة


أتابع مسلسلاً بوليسياً يدعى قضية باردة أو Cold case تقوم فيه محققة مخضرمة بالتحقيق في جرائم قتل قديمة لم تنجح الشرطة في حلها (أيام زمان).

وكثيراً ما تنتهي مهمتها بالقبض على القاتل الحقيقي بعد سنوات طويلة نعم فيها بالحرية، أو إخراج متهم بريء أمضى جل حياته في السجن..

وليس بالضرورة أن تكون الجريمة مقيدة (ضد مجهول) كون بعضها قد يكون حُل في وقتها (أو هكذا اعتقد الضابط المكلف بها) ثم تظهر ادعاءات أو دلائل جديدة تجبر المحققين على إعادة فتحها بعد عشرة أو عشرين عاما!

والحقيقة هي أن معظم القضايا في المسلسل لا تبتعد عما يحدث على أرض الواقع. ففي أمريكا هناك 6000 جريمة قتل سنويا تقيد ضد مجهول و204000 لم يعرف فاعلها منذ عام 1980!!

وبالطبع لا تقتصر الظاهرة على أمريكا وحدها كونها تحدث في جميع المجتمعات وتعتمد على كفاءة الشرطة ورجال التحقيق فيها.. فكفاءة حل الجرائم في ألمانيا مثلا أفضل بكثير من تايلند وبنجلاديش، وكفاءة حلها في السويد أفضل بمراحل من كوستاريكا وكولومبيا (رغم عجزها حتى اليوم عن كشف لغز قتل رئيس الوزراء السويدي أولوف بالمه عام 1986).

غير أن أحدا لا يتفوق على أمريكا من حيث عدد الجرائم المقيدة ضد مجهول أو وصلت الى طريق مسدود.. ففي عام 2008 مثلا كانت نسبة الجرائم (غير المحلولة) في ديترويت تساوي 79% وفي نيوأوريلنز 78% وفي شيكاغو 65%.. وهي نسب مفزعة ومخجلة مقارنة بشرطة سان دييجو مثلا التي نجحت في حل 94% من الجرائم أو شرطة دينفر 92% وفيلادلفيا 85%.

وفي الدول الغربية عموما يلاحظ أن نسبة الجرائم غير المحلولة ترتفع باضطراد منذ عام 1960.. والعجيب أن يحدث ذلك في وقت تقدم فيه الطب الشرعي، وظهرت فيه البصمة الوراثية، وتوفرت فيه تقنيات كشف الجريمة..

وهذا التراجع لا يعني سوى شيئا واحدا فقط -اشتكت منه حتى الشرطة الفيدرالية في أمريكا- وهو أن الجرائم الحديثة أصبحت تأتي من مجرمين خبراء يعرفون جيدا أساليب الشرطة وآليات الكشف عن الجريمة.

وأنا شخصيا لا أستبعد أن تكون المسلسلات البوليسية كما فعلت معي منحت المجرمين ثقافة عالية ودراية كافية بعمل الطب الشرعي وتقنيات جمع الأدلة. فمسلسل التحقيق الميداني مثلا (CSI) يستعين بأفضل الخبراء والمتخصصين في علم الجريمة والطب الشرعي الأمر الذي حوله الى جامعة مفتوحة للمجرمين والمتخصصين على حد سواء!!

فالمجرمون هذه الأيام تجاوزوا بأشواط المهارات الكلاسيكية (التي كنا نقرأها في روايات أجاثا كريستي) وأصبحوا خبراء في تحاشي البصمة الوراثية، والصورالطيفية، وطرق البحث في تعاملاتهم الإلكترونية.. أصبحوا يحرصون على عدم ترك ما يكشف بصمتهم الوراثية، أو يظهر ملامحهم لكاميرات المراقبة، أو ترك أي بقايا عضوية تدينهم.. أصبحوا يلبسون أكياسا فوق رؤوسهم (خشية سقوط شعرة تثبت علاقتهم بالجريمة) ويلفون جباههم بعصابة قطنية (كي لا تسقط نقطة عرق على الأرض) ويلصقون رسائل التهديد بالماء (كي لايكشف لعابهم بصمتهم الوراثية) ولا ينسون قبل مغادرتهم سكب الشامبو فوق الدم أو السائل المنوي لإفساده!!

أحمد الله أن بساطة وعفوية الجرائم في مجتمعنا لا تختلف كثيرا عن بساطة وعفوية رجال الشرطة لدينا (وإلا كان شفت شيء ماشفته بشيكاغو وديترويت)!!

.. ومع هذا؛

أرفع لوزارة الداخلية اقتراحا بإنشاء فرقة متخصصة (تضم نخبة المحققين) لإعادة فتح بعض القضايا القديمة أو حلحلة ما وصل منها لطريق مسدود..!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...