الثلاثاء، 27 أغسطس 2019

كبسة.. ومدارس


كم مرة ذهبت الى دائرة حكومية ووجدت المكاتب خاوية من موظفيها.. كما مرة سألت عن أحد الموظفين فقيل لك ذهب لتناول الفطور أو الصلاة أو إحضار أبنائه من المدارس فأسقط في يدك ولم تجد ما تقول.

فرغم أننا نعمل ساعات أقل من شعوب العالم - التي ينتهي دوامها الخامسة عصرا - إلا أننا الأكثر تأخرا في الحضور، والأسرع في الانصراف، والأكثر تهربا من العمل.. والمسألة (في عمقها) لا تتعلق بالفطور أو الصلاة أو المدارس، بل بوجود ثقافة كسولة وغير أمينة يشجعها الشعور بالأمان الوظيفي.. فمعظمنا لا يتناول الفطور لو جلس في بيته، وقليل منا يخرج لصلاة الظهر (ولو سألته لماذا؟ لأخبرك بحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: أبردوا بصلاة الظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم). أما خروج الأطفال من المدارس فأمر يمكن تدبيره بعشرات البدائل - ولا أعتقد انه ينطبق أصلا إلا على نسبة قليلة من الموظفين!

.. في كوريا واليابان يعانون من إدمان العمل وعدم أخذ إجازات - وبالتالي - ارتفاع نسبة الإرهاق والوفيات.. وكان أحد المسؤولين بشركة الاتصالات قد أخبرني كيف عملوا في مشروع مشترك مع احدى الشركات الصينية، وخلال فترة الدوام كان نصف المهندسين السعوديين لا يتواجدون في مكاتبهم أو يخرجون قبل نهاية دوامهم، وفي المقابل كان الموظفون الصينيون لا يتحركون عن مكاتبهم ويبقون في مقار عملهم حتى يطفئ عليهم "السكرتي" الأنوار ويهددهم بإغلاق الأبواب.

.. وفي المقابل أذكر أنني ذهبت الى المحكمة فوجدت 12 مكتبا خاليا في غرفة واحدة، وحين سألت رئيسهم قال: ذهبوا للفطور، فقلت: ولماذا لا يذهب نصفهم ويبقى النصف الآخر؟ فرد علي بحدة: يا أخي جميعنا يعمل من أجل العيشة (وهو عذر لم أفهمه حتى اليوم).. وكنت قبل ذلك قد صعدت لرؤية فضيلة القاضي فأخبروني أنه لم يأت بعد، وحين عدت إليه بعد انتهائي من غرفة الموظفين أخبروني أنه ذهب للصلاة في الحرم النبوي!!

.. والمشكلة حين يتخذ أحدهم من الصلاة عذرا.. فهو يقولها لك بقوة وثقة وعلم بعجزك عن الوقوف ضد هذا العذر - وكأنك لا تصلي مثله - ثم يتركك ليدخن مع زملائه في الغرفة الخلفية كما حصل معي في مستشفى أحد حين طلبت ورقة خروج فارغة.. ومثل هؤلاء لا يفهمون أنهم بهذا التصرف يستغلون الدين بطريقة سيئة.. لا يفهمون أن الهوامش الكبيرة في أوقات الصلوات إنما وضعها رب العالمين لتيسير أحوال المسلمين (خصوصا صلاة الظهر التي يمتد وقتها من زوال الشمس حتى يصبح ظل كل شيء مثله).. أما ان شئنا التشدد فلماذا لا تقسم صلاة الجماعة بين الموظفين (طالما لم تخرج عن وقتها) أو تقام في وقت منضبط ومعلوم للجميع كي لا يأخذ الموظف "نصف ساعة" للوضوء و"نصف ساعة" للحضور - ولو كان في بيته لنقرها كنقر الديك..

.. أما آخر التجارب فكانت في مارس الماضي في مطار المدينة الدولي (ولاحظ كلمة دولي).. فقد كانت لدي رحلة على طائرة تركية تزدحم بالزوار والمعتمرين. والأسوأ من ذلك كان قبلها طائرة ماليزية يمتد ركابها من "كاونترات" الجوازات حتى الصالة الخارجية.. وحين تراكم ركاب الطائرتين دون أن تتحرك الصفوف تقدمت لأعرف السبب فاكتشفت أن "كاونترات" الجوازات خالية ولا يوجد فيها أحد.. لم أجد غير موظف للخطوط السعودية فسألته "أين رجال الجوازات" فقال هامسا "يتناولون الكبسة" فسألته "في أي غرفة؟" فأشار بيده إلى مكانهم فذهبت اليهم (وكانوا خمسة يكبسون) فأخبرتهم بعدم معقولية ترك أكثر من 500 مسافر أجنبي من أجل "الكبسة" وأن تصرفا كهذا يسيء لسمعة البلد.. وحين لم يتحرك أحد هددت بتصوير ما يحدث ووضعه على اليوتيوب (وهذا ما حدث فعلا، بل وذهبت لمدير الجوازات وعرضت عليه اللقطة المزرية في جوالي)!!

.. أشير مجددا إلى أن الأسباب الحقيقية لمثل هذا التسيب - لا تكمن في الكبسة أو الصلاة أو أي عذر يقدمه الموظف - بل في ثقافة العمل المتراخية، والرقابة المهلهلة، وتقديم المصلحة الخاصة على المسؤولية العامة.. ورغم أنني لست خبيرا بعلم الإدارة أتوقع أي شيء من موظف لا يملك شعورا بالمسؤولية، أو مكافآت ترتبط بالانجاز، أو ثقافة تنظر للعمل كمسؤولية وانجاز شخصي - وليس توقيعا في دفتر يخص المدير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...