الأربعاء، 14 أغسطس 2019

«لا توحش النفس بخوف الظنون»


سأعترف لكم بسر:

قبل رحلتي الأخيرة للهند كنت أحمل همَّ العدوى والتلوث وإصابتي بمرض ما.. وهذه الاحتمالات بنيتها على أخبار صحفية، وتقارير إعلامية، وتحذيرات سياحية حول أمراض استوائية تصيب السياح فقط (كون الهنود يملكون مناعة ضدها بفضل العشْرة الطويلة معها)!!

.. وهكذا حملت في حقيبتي كمامات تنفس، ومعقم أيدٍ، وصابون ديتول، وقفازات طبية، وبخاخ طارد للبعوض، ومضادات حيوية.. وكل ما نصحتني أم حسام بحمله معي.

وبعد شهر من تجولي في الهند عدت ولم أستعمل شيئا من كل هذا، وأدركتُ حتى قبل عودتي أنني تصرفت بطريقة ساذجة ومبالغ فيها!!

.. وأقول ساذجة ليس لأنني كنت حذرا (فالحذر واجب ومن شيم الأذكياء) بل لأنه كان يفترض بي الاستفادة من تجاربي السابقة وإدراك أن السمعة الشائعة عن بلد ما لا تنطبق على الواقع غالبا.

فقد سبق أن سافرت إلى ماليزيا في وقت كان فيه مرض السارس يطغى على أخبار العالم.. وإلى هونج كونج والصين أيام الهوس العالمي بإنفلونزا الدجاج.. وإلى كمبوديا وتايلند وبورما في أوج التركيز الإعلامي على إنفلونزا الخنازير.. وفي كل مرة كنت أرى الناس بخير وصحة عافية، والحياة تسير بشكل طبيعي ومعتاد (وبعكس ماتصوره لنا وسائل الإعلام).

فالمبالغة الإعلامية والتركيز على السلبي والنادر فقط قد توحي بأن الحالة عامة وشائعة ولا يسلم منها أحد (وتذكرون كيف منع زين العابدين الحجاج التونسيين من الذهاب للحج خوفا عليهم من إنفلونزا الخنازير، في حين لم يرَ السعوديون أنفسهم شخصا مصاباً بالمرض)!!

ومفارقات كهذه تذكرنا بأن معظم مخاوفنا - حتى وإن كان لها أساس من الصحة - هي في الواقع مبالغ بها ونادراً ما تحدث لمن يفكر بها.. صحيح أن حالات السارس ظهرت في ماليزيا، وصحيح أن انفلونزا الطيور اكتشفت أولا في هونج كونج، وصحيح أن الوادي المتصدع قتل بعض الأبقار في جنوب السعودية (وبدون شك توجد في الهند أمراضٌ مستوطنة تضرُ القادمين الجدد) ولكن هذه كلها تظل احتمالات استثنائية ونادرة وتقل كثيرا عن احتمال إصابتك بحادث تاكسي يسير في قلب لندن.. (واخترت قلب لندن لأن متوسط السرعة فيها أصبح يقل عن 35 كلم في الساعة)!!

ما يجب أن تخاف منه فعلا هو المبالغة في الخوف نفسه وإطالة التفكير في كل ما هو نادر واستثنائي وبعيد الاحتمال..

ما يجب أن تعيه جيدا أن المخاوف المسبقة (والظنون المبالغ بها) قد تشل تفكيرك وتنسيك ما يجب أن تخاف منه فعلا.. فالسمنة، والتدخين، والكحول، وحوادث السيارات، أمثلة لما يجب أن تخاف منه فعلا، كون احتمالات الموت بسببها تفوق احتمالات الموت بسبب الملاريا والسارس وإنفلونزا الطيور (وابحث في النت عن مقال: من باعنا إنفلونزا الخنازير)!!

أيضا؛ يجب أن تدرك أن وسائل الإعلام تعتاش دائما على الأخبار السيئة؛ وبالتالي لن تتوقف يوما عن تزويدنا بأخبار الكوارث والحوادث والفيضانات والعمليات الإرهابية (لدرجة قد نظنها خارج الباب) ولكن الحقيقة هي أن احتمال وفاتنا بهذه الأسباب أندر من احتمال وفاتنا بسبب خسف أرضي أو انفجار بركاني أو هبوط نيزك في وسط الرياض!!

.. ورغم أن أحدا لا يضمن انتقالك للآخرة بسبب حادث نادر جداً جداً (كسقوط صاروخ ستينجر فوق رأسك) من الذكاء أن تعيش كامل حياتك دون خوف أو قلق أو تفكير في احتمال ساذج كهذا!!

وقبل أن أنسى:

ياحبذا لو تكمل القصيدة التي عنونا بها المقال وتتخذها مبدأً في حياتك!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...