لا يخفى على أحد أننا نعيش في بيئة صحراوية جافة حيث لا أمطار ولا أنهار ولا حتى آبار سطحية.. وخلال الخمسين عاما الماضية تفاقمت حالات القحط والتصحر لدرجة أن السعودية - لولا أموال النفط ومحطات التحلية - لغدت منطقة غير صالحة للاستيطان البشري.
وعلى النقيض تماما؛ توجد شعوب تعيش في أماكن رطبة تكثر فيها الأنهار والأمطار والفيضانات التي تغمرها باستمرار.. وفي حين ساهمت السدود وطواحين الهواء في حماية هولندا (واسمها الرسمي الأراضي المنخفضة) من طغيان البحر وتقدم الفيضان، لا تملك بنغلاديش غير الاستسلام لفيضانات الأنهار وزحف البحار والهطول الدائم للأمطار.. وحتى أيامنا هذه مازالت هناك شعوب كثيرة في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية تعيش فوق الماء أو تقضي حياتها فوق أكواخ عائمة أو قوارب صغيرة.. فشعب الباتايك مثلا (في سارواك باندونوسيا) مثل لشعوب كثيرة تعيش في أكواخ ترتكز على أعمدة طويلة فوق المستنقعات والبحيرات الضحلة.. حيث يطارد الصغار أسماك الماء من سن الرابعة.. وقل الشيء نفسه عن قبائل الأمازون في البرازيل، وصيادي الأسماك في دلتا النيجر، وعرب الأهوار في جنوب العراق، الذين اعتقد الفرس أنهم قادرون على التنفس تحت الماء!!
على أي حال؛ في حين أصبح وجود هذه الجماعات معروفا ومسلما به يصعب تأكيد وجود حوريات الماء أو عيش مجموعات بشرية تحت البحر.
فحول العالم تؤمن شعوب كثيرة بوجود حوريات البحر وتعطيها نفس الملامح والصفات.. والغريب هو تشابه الوقائع وتوحد الشهادات بين مجتمعات لا يوجد بينها اتصال جغرافي أو حتى تاريخي. فكما يؤمن سكان الفلبين بوجود الحوريات يؤمن بها شعب القرم في البحر الأسود، والأسكيمو في شمال كندا، وقبائل السود في غينيا الجديدة، وصيادو الاسماك في مستنقعات القصب شمال مصر.. وتتفق الشهادات حول رؤية حورية جميلة نصفها امرأة ونصفها سمكة تملك عيونا كبيرة وجدائل طويلة. وغالبا ما يراها الصيادون تطل برأسها من الماء فجأة أو تجلس على إحدى الصخور البعيدة تمشط جدائلها الذهبية. وكثيرا ما يسحرن بجمالهن رجل من الصيادين فيقفز نحوهن فيأخذنه معهن الى أعماق البحر!!
وكان الرحالة العربي على بن الحسين (المسعودي) قد تحدث عن حوريات البحر وذكر عنهن قصصا عجيبة. وقال إنهن يظهرن للصيادين في بحر الروم وإنهن ذوات حسن وجمال ولهن أثداء وشعور كبنات حواء.. ويقال إنهن يظهرن في بحيرة رشيد وبرلس قرب دلتا النيل.
كما تحدث المؤرخ القزويني عن جماعة من الصيادين أسروا اثنين من "بنات الماء" فتزوج بهما اثنان. فأما الأول فوثق بصاحبته حتى إذا غفل عنها قفزت الى الماء وهربت منه. أما الثاني فكان يربطها دائما (!!) فعاشت معه زمنا طويلا وولدت له ولدا كأنه فلقة قمر. وذات يوم ركبوا القارب ولم يربطها على غير عادته فقفزت الى الماء تاركه ابنها على المركب فأسف عليها أسفا عظيما. وبعد أعوام كان الرجل وابنه يصطادان في القارب حين أطلت من الماء فجأة ورمت لهما عددا كبيرا من الياقوت والجواهر ثم اختفت الى الأبد.
وشبيه لهذه القصة ذكرها ابن زولاق في تاريخه عن رجل من المغرب علقت في شباكه حورية لم ير الناس أجمل منها. وقد عاش معها أربعة أعوام أنجبت له ولدا دعاه الناس "يوسف" من جماله وحسن خلقته. ومنذ تزوج بها حّرم الصياد على نفسه نزول البحر خشية هربها ولكنه ذات يوم أخذها في مركب للمسافرين فقفزت الى البحر مع يوسف فجن جنون الرجل وكاد يرمي نفسه خلفها لولا تداركه أهل المركب!!
قد تكون هذه مجرد أساطير يشترك فيها العالم.. وقد تكون مجرد أمنيات لصيادين جمعت بينهم التعاسة وسهر الليل والتدخين.. ولكن الأوصاف المتشابهة لحوريات البحر - وانتشارها الواسع بين شعوب الأرض - يجعلنا نفترض وجود أصل مشترك بينها.. هذا الأصل قد لا يتجاوز الفقمة والدولفين وعجول البحر التي تبدو من بعيد كحوريات الأساطير!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق