من خلال رحلاتي حول العالم لاحظت أن شعوب الأرض تتفق على شيئين رئيسيين.. الأول إيجابي ينال رضا الجميع، والثاني سلبي ينتقده الجميع ويكرهه الجميع.. ولا تتناطح فيه عنزان..
الأول - الذي يرضا عنه الجميع - هو مترو الأنفاق!!
والثاني - الذي ينتقده الجميع - هو استشراء الفساد!!
وقد يبدو غريبا الربط بين الفساد ومترو الأنفاق.. ولكن حين تتأمل هذه المفارقة تكتشف أن المترو (مهما كان سيئا ومتخلفا) يعد أفضل وأسرع وأكثر هدوءا من وسائل النقل الأخرى، بل ورأيته واحة للسلام والطمأنينة في مدن مزعجة مثل القاهرة ونيودلهي وكاراكاس.
أما الفساد فيتفق الجميع على سلبيته وخطورته (مهما قل أو ندر) كونه يمس أرزاق الناس ويؤثر على اقتصاد الدولة ويعطل مسيرة التنمية في البلد.
سمعت الناس في روما وبانكوك ودبي يمتدحون المترو رغم تخلفه وقلة خطوطه.. وفي المقابل سمعت الناس في نيوزلندا والدنمارك واليابان يتهمون حكوماتهم بالفساد والمحاباة رغم تطورها المادي وتقدمها في سلم النزاهة العالمية!!
واليوم تذكرت هذه المفارقة أثناء اطلاعي على القائمة الجديدة لسلم الفساد العالمي (لعام 2012 المنصرم).
ففي كل عام تصدر مؤسسة الشفافية العالمية قائمة سنوية ترتب فيها دول العالم من الأكثر نزاهة (في أعلى القائمة) الى الأكثر فسادا (في أسفلها).. ويعتمد الترتيب على نقاط تتدرج من "صفر" إلى "مئة" بحيث يعني الصفر - أو الاقتراب منه - فسادا كاملا أو كبيرا، في حين تعني المئة - أو الاقتراب منها - نزاهة كاملة أو وجود الفساد بنسبة قليلة.
وفي قائمة هذا العام حصلت الدنمارك وفنلندا ونيوزيلندا والسويد وسنغافورة على أعلى الدرجات، وتأتي بالترتيب كأكثر الدول نزاهة وشفافية من بين 174 دولة شملها التقييم.
وعلى النقيض تماما أتت في ذيل القائمة (من الأسفل للأعلى) كل من الصومال وكوريا الشمالية وأفغانستان والسودان وميانمار كأكثر الدول فسادا وانعدام الشفافية، حيث لم تحصل أول ثلاث دول مثلا على أكثر من 8 نقاط من 100!!
وبحسب منظمة الشفافية العالمية (التي تتخذ من برلين مقرا لها) توجد علاقة كبيرة بين انتشار الفقر والفساد والعنف المسلح.. فالفساد يتسبب بالفقر وتخلف مسيرة التنمية.. والفقر والتخلف يتسببان بغضب مكبوت سرعان ما ينفجر كعنف مسلح.. والدليل على هذا أن أكثر الدول فسادا في القائمة (التي يمكنك مشاهدتها كاملة على موقع المؤسسة cpi.transparency.org/cpi2012) تعاني من غضب شعبي واضطرابات مسلحة؛ مثل الصومال ومينمار وأفغانستان.. وعلى النقيض تماما تعيش الدول الأكثر نزاهة وشفافية حالة سلام وترف وتماسك تحسد عليه مثل الدنمارك وفنلندا ونيوزلندا.
وهذه العلاقة تثبت أن الفساد ليس مجرد أخذ رشوة - من تحت الطاولة - بل تهديد لكيان الدولة، وتعطيل لمسيرة التنمية، وتهديد للتعايش السلمي في المجتمع.. تثبت أن الفساد لا يعني اختلاس الأموال فقط، بل واختلاس أرزاق الناس وحقهم في الخدمات الضرورية كالصحة والتعليم وفرص التوظيف.. تؤكد أن الفساد لا يعني فقط المحاباة واحتكار المشاريع الكبيرة، بل وقتل فرص المشاركة والمنافسة وتنفيذ الإنجازات الوطنية بكلفة أقل وجودة أعلى.
وحين تتأمل قائمة هذا العام تلاحظ أن النزاهة وحدها ارتفعت بدول لا تملك أي ثروات طبيعية وقادتها نحو التقدم والرفاهية (مثل نيوزلندا والدنمارك وسنغافورة)؛ في حين تسبب الفساد والنزاعات المسلحة في إفقار دول ثرية بمواردها النفطية والطبيعية (مثل العراق وفنزويلا والسودان) واحتلالها ذيل القائمة!!
 
 
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق