الاثنين، 26 أغسطس 2019

اختفى من كوخ ضوء القمر


لأسباب تتعلق بالفيزا لم أنجح بزيارة سنغافورة مرتين في حياتي.. وفي كلا المحاولتين كان ضمن جدولي المسبق زيارة المنزل الذي اختفى منه رجل الأعمال (أو لنقل المخابرات) الأمريكي جم تومسن عام 1967..

والقصة بدأت قبل هذا التاريخ بكثير حين كان تومسن يحمل رتبة عقيد في الجيش الامريكي وكلف بتشكيل نواة لجهاز المخابرات في تايلند أثناء الحرب الكورية. وخلال تلك الفترة نمت لديه هواية جمع الحرير التايلندي الذي لم يكن معروفاً في الغرب رغم خامته الراقية. وبدأت ضربة الحظ في حياته حين عاد إلى أمريكا وعرض قطع الحرير على مجلة "فوج" للأزياء. وهناك فوجئ بصيحات الإعجاب تتعالى من كبار المصممين وأسئلتهم عن كيفية الحصول عليه. وقبل ان يعرف الفرق بين دودة القز ودودة الطحين وجد نفسه غارقاً في التزامات توريد الحرير دون أن يملك منه متراً واحداً!

ولكن تومسن سرعان ما اصطدم بالواقع المتدهور لتلك الصناعة هناك؛ فتايلند - في ذلك الوقت - كانت بلدا متخلفا وكان من الصعب إقناع القرويين بالجلوس إلى مناول الغزل لغير احتياجاتهم الشخصية. الا انه شيئا فشيئا استطاع اقناعهم بأهمية الانتاج التجاري واستخدام المكائن. وكان في فجر كل يوم يركب قاربه ويتغلغل في الأحراش لإغرائهم بالمال وتزويدهم بالمعدات والأصباغ اللازمة.

وبفضل تومسن أصبح في تايلند مئة وخمسون مصنعا لإنتاج الحرير واعترفت الحكومة التايلندية بفضله على هذه الصناعة (حتى سمي بملك الحرير). وبسرعة أصبح المحتكر الوحيد للحرير التايلندي.. دون أن يعلم أحد باستمرار علاقته الوثيقة بالمخابرات الامريكية. وبحلول عام 1967 كان قد حقق ثروة خرافية وسمعة عالمية كمستشار دولي في صناعة الحرير؛ الأمر الذي رفع من أهميته حتى لدى جهاز المخابرات.

ولكن في السادس والعشرين من مارس كان في زيارة لسنغافورة ونزل في بيته الريفي المسمى "كوخ ضوء القمر" - والذي يعد نسخة طبق الأصل من بيته الرئيسي في تايلند - وفي اليوم التالي ذهب الى الشرفة لتناول الغداء ولكنه ما لبث أن اختفى بصورة غامضة - لدرجة كان الغداء مايزال ساخنا حين عاد الخادم ولم يجده. وسرعان ما بدأت أكبر حملة بحث في جنوب شرق آسيا - بإيعاز من الحكومة الأمريكية - ولكن دون جدوى. وبدافع من اليأس لجأت شقيقة تومسن إلى المستبصر الهولندي الشهير بيتر هركرس (الذي سبق وكتبت عنه واشتهر بقدرته النفسية الخارقة على كشف الجرائم)؛ وقد ادعى هركرس أن المختطفين كانوا من عصابات التهريب التي تعامل معها تومسن وانه ذهب معهم الى الغابة طواعية لمناقشة إحدى العمليات.

ولكن المرجح اليوم أن اختطاف ملك الحرير تم من قبل الثوار الشيوعيين لوقف قصف أمريكا لفيتنام الشمالية. كما يعتقد ان استدراجه الى الغابة تم برضاه وتواطؤ من صديقه رئيس وزراء تايلند السابق بريدميونج.. الذي كان بدوره في زيارة لسنغافورة في ذلك الوقت.. ويرى المحللون أن اختطاف تومسن كان هدفه الضغط على الرأي الشعبي في الولايات المتحدة، وايضا على السياسيين في تايلند كي يمنعوا القاذفات الأمريكية من الإقلاع من أراضيهم!

.. على أي حال مايزال مصير تومسن مجهولا رغم مرور 46 عاما على اختطافه، ولم تصدر امريكا أي بيان رسمي بهذا الشأن.. أما في كوخ ضوء القمر فما يزال الخدم يعملون كما لو كان موجودا ومايزال الطباخ يحضر الغداء في الشرفة كل مساء تحسبا لعودته المفاجئة.

وغني عن القول ان (الحركة الأخيرة) جزء من مهارة التسويق السياحي ووسيلة عاطفية لجذب آلاف السياح الأمريكان إلى سنغافورة.. أما شخصي المتواضع فعوض زيارة سنغافورة بزيارة منزله الآخر في تايلند والاطلاع على الصور والوثائق التي تثبت أنه كان جاسوسا يعمل بثياب رجل أعمال!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...