الجمعة، 2 أغسطس 2019

المعجزات الثلاث


حين كنا أطفالًا كان كل شيء حولنا يصيبنا بالدهشة.. كنا نرى معجزات حقيقية في كل مايحيط بنا.. كنا نطرح الكثير من الأسئلة في محاولة للفهم والتفسير..

ورغم عجز آبائنا عن تقديم إجابات شافية نستمر في طرحها بصيغ مختلفة حتى ندخل سن المدرسة.. وحين ننتظم على مقاعد الدراسة نبدأ بالتعود على وجودها ، ويبدأ التعليم العام في قولبة أدمغتنا حول ما يصح ، وما لا يصح السؤال عنه!!

وكلما تقدمنا بالسن زاد تعودنا وألفتنا (وتبلدنا) تجاه مايجري حولنا.. فالطيور تحلق في السماء لأنها ببساطة "طيور" ، والأسماك لا تغرق في الماء لأنها "أسماك" ، ومن الطبيعي أن تشع النار حرارة وضوءا لأنها "نار" .. وهكذا تقتلنا المسلّمات والبدهيات حتى تصبح الدنيا بمرور الزمن مملة لاتستحق التأمل / رغم بقاء المعجزات حولنا دون تغيير!!

.. ولكن .. بين الحين والآخر؛ تمر بنا لحظات (كفلاشات الكاميرا) تكسر حاجز المسلّمات وتعيدنا إلى دهشة الطفولة وأسئلتها البريئة.. فليلة البارحة مثلا - وأثناء جلوسي قرب السائق - انحنيت فجأة باتجاه الزجاج الأمامي وطرقته بأظافري "طق" "طق".. هذه الحركة لفتت نظر السائق فسألني إن كنت أرى كسرا في زجاج السيارة فاكتفيت بكلمة (لا).. ولكن الحقيقة هي أنني عدت للحظة لأيام الطفولة حين كنت أستغرب من قدرتنا على الرؤية عبر جسم صلب وقاس كالزجاج ...(وأكاد أجزم أنك سبق وطرحت هذا السؤال؟).

ولن أخبرك لماذا يمكننا الرؤية عبر الزجاج كون التفسيرات العلمية تقتل دهشة الطفولة وتجعل لكل شيء تفسيرا منطقيا ومقبولا.. ولكن بالإضافة للزجاج - والطيور والأسماك والنار - كان هناك أيضا الهواء والمغناطيس اللذان يأتيان في مقدمة الأشياء التي أثارت دهشتي وتساؤلي..

الهواء هذا الكائن اللطيف الذي يحيط بنا ويدخل أجسادنا دون أن نراه فعلا .. هذا الكائن الخفي الذي يتصرف كالنسمة وأحيانا كالإعصار.. هذا الكائن الهش الذي يعجز عن حمل الريشة ولكنه قادر على رفع الطائرات العملاقة.. هذا الكائن الشفاف الذي يرفض الخضوع لملكية أحد ومع هذا يدخل رئات الجميع بكل رحابة وكرم وطيبة خاطر...

... معجزة الهواء تكمن في شفافيته ورقته وخفائه وتواجده في كل مكان.. فلو لم يكن شفافا لعجزنا عن الرؤية، ولو كان كثيفا (كالماء أو العسل) لعجزنا عن التحرك، ولو كان حكرا على مناطق معينة لأصبحنا سجناء لجزر الأوكسجين...

ومرة أخرى لن أخبرك لما يتمتع الهواء بهذه المزايا المدهشة كون "الإجابات" العلمية تطفئ دهشة الطفولة وتجعل لكل شيء تفسيرا مقبولا، وجوابا منطقيا..

أما المغناطيس فحكايته حكاية؛ إذ مازلت أتذكر دهشتي وفزعي حين رأيته لأول مرة .. كنت - ومازلت - أعتبره الظاهرة الخارقة الوحيدة التي يمكن رؤيتها والتأكد من وجودها .. فقدرته على تحريك الأجسام عن بعد (خصوصا الحديد والكوبلت والنيكل) أمر يكاد يصل لحد السحر ومخالفة قوانين الحركة والمنطق.. وفي الأزمنة القديمة بالذات كان يعد مادة نادرة - لا يراها معظم الناس - الأمر الذي ضاعف من مفعول السحر عليهم.. ووصل الأمر في القرون الوسطى إلى تحريم تداوله بذريعة أنه (حجر الشيطان).. ومع هذا حين رآه القديس أوغسطينيوس لأول مرة في القرن الخامس عشر أعلن أنه دليل واضح على وجود الله وقدرته على التحكم بالأشياء والتأثير فيها عن بعد.. أما أنشتاين فعبر في مذكراته عن دهشته الكبيرة حين قدم له والده في سن الرابعة قطعتيْ مغناطيس الأمر الذي جعله على قناعه - منذ ذلك العمر - بوجود قوى خفية وغير مرئية تتحكم بالكون!!

… ومثل الزجاج والهواء؛ لا يعد المغناطيس ظاهرة خارقة فحسب، بل ويخدمنا بطرق كثيرة حيث يعود له الفضل في ظهور جميع التقنيات الإلكترونية (ويكفي التذكير بدوره في توليد الكهرباء الطاقة المسؤولة عن كافة الاختراعات الحديثة)!!

... ومرة أخرى لن أخبرك (لماذا وكيف) كون التفسيرات العلمية تقتل دهشة الطفولة وتجعل لكل شيء تفسيرا منطقيا ومقبولا ..

ومايهمني فعلا هو تذكيرك بالكم الهائل من المعجزات المحيطة بنا وكيف تبلد إحساسنا تجاهها ..

معجزات لم تغب عنك يوما ولرؤيتها مجددا ما عليك سوى العودة لزمن الطفولة وعدم التحرج من "طق" "طق"…

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...