الاثنين، 26 أغسطس 2019

الصورة لم تعد أصدق من ألف كلمة


قبل فترة طويلة كتبت مقالاً عن زيارتي للهند قلت ضمنه:

.. وأول ظاهرة يلاحظها السائح هناك كثرة ووفرة كل شيء.. فالهند كثيرة بفقرائها، وأغنيائها، ولغاتها، ودياناتها، وأقلياتها، وأفلامها، وبهاراتها، وجامعاتها، وعدد سكانها ماعليك فقط سوى اختيار الجانب الذي ترغب برؤيته والتحيز إليه!!

.. واليوم.. لو أردت إعادة صياغة الجملة الأخيرة لقلت:

(ماعليك فقط سوى اختيار الجانب الذي ترغب بتصويره وتقديمه كإثبات)

فرغم قناعتي بأن الصورة خير من ألف كلمة؛ إلا أنها يمكن أن تلتقط بألف طريقة متحيزة، وتقدم بألفي طريقة مجتزئة، ولا تخبرنا بغير الحقيقة التي تؤيد صاحبها من بين ملايين البشر..

فحين قمت بزيارة الهند (في سبتمبر 2012) لاحظت فعلاً أن كل شيء فيها كثير وغزير ووفير.. ففي حين يعيش ثلث سكانها تحت خط الفقر، يعيش فيها أيضا أثرياء يفوقون مليونيرات العالم العربي أجمع.. وفي حين يوجد فيها أميون يفوقون سكان أوروبا، تُخرج جامعاتها سنوياً أكثر مما تخرج جامعات أوروبا وأمريكا مجتمعة.. ورغم أن المسلمين فيها يعدون "أقلية" إلا أنهم يأتون في المركز الثاني من حيث تعداد المسلمين في العالم (بعد اندونيسيا)..

وخلال رحلتي فيها كنت مولعاً بالتقاط صور المعدمين والمشردين وأطفال الشوارع - رغم علمي بقلة نسبتهم مقارنة ببقية المجتمع.. ولو كنت متحيزاً ضد الهند - وكارها لها - لاكتفيت بتقديم هذه الصور كدليل على تقصيرها وتخلفها في سلم التنمية البشرية.. ولكنني في هذه الحالة أصبح صاحب عدسة متحيزة (رغم صحة الصور التي التقطتها) وغير أمين في طرحي كوني غضضت الطرف عن تقدمها التقني ونظامها الديموقراطي والتعايش السلمي وتوسع الطبقة المتوسطة الذي تحسده عليها معظم الدول العربية!!

.. ومن جهة أخرى؛ مازلت أذكر فيلماً شاهدته - أيام الفيدوهات الضخمة - عن حياة البائسين في أمريكا.. كان فيلماً وثائقياً أنتجته روسيا أيام الحرب الباردة كي تثبت لمواطنيها جحيم الحياة في أمريكا ومساوئ الرأسمالية في الغرب. وأذكر جيداً أنه كان يتضمن مناظر كثيرة (بشعة وسلبية) عن الفقراء والمشردين وتجار المخدرات ودعارة الأطفال واستيلاء البنوك على منازل المتعثرين بالسداد - واختتمته بمشد حقيقي لإعدام رجل بريء على الكرسي الكهربائي..

ولأنها صور حقيقية وواقعية لا تملك غير تصديقها وكره المجتمع الأمريكي من أجلها.. ولكنها أيضاً صور متحيزة تؤيد وجهة نظر صاحبها وتخفي جوانب إيجابية كثيرة يتفوق فيها المجتمع الأمريكي على مجتمعات عالمية كثيرة بما فيها النظام الماركسي الخانق في الاتحاد السوفيتي السابق (وللأسف مايزال بعض وعاظنا ينتهجون ذات الأسلوب من حيث انتقاء الاستثناءات المسيئة وتعميمها كحالة عامة ومعتادة)!!

.. وحتى حين نتحدث عن الصور المؤلمة التي تدين أصحابها (مثل قصف إسرائيل لغزة، أو سقوط الضحايا المدنيين في سوريا، أو إهانة السجناء العراقيين في أبو غريب) تشغلنا صحة الصور وواقعية المشهد عن حقيقة أنها مواقف مجتزئه.. وفي مواقع استثنائية.. وضمن لحظات مقتطعة من سياقها الزمني..

وهذه الاستثنائية والاقتطاع تجبرنا على الاعتراف بأن وسائل الإعلام (متحيزة بطبيعتها) كونها لا تلتقط سوى النادر، ولا تنشر غير الاستثنائي، ولا تخبرنا إلا عن الشاذ والصادم للمشاعر - ناهيك عن تعبيرها عن مواقف أصحابها مثل الإعلام الروسي الذي طالما أظهر نظام الأسد في موقف الشريف والمدافع عن نفسه!!

.. ومايهمني اليوم فعلاً هو أن تدرك (أنت) هذه الحقيقة..

أن تدرك حتمية تحيز الصورة والإعلامي الذي يقف خلفها..

أن تحذر من تشكيل رأي خاطئ لمجرد "رؤية" أو "سماع" جانب واحد من الحقيقة!

أن تتذكر بأن الصورة قد تكون خيراً من ألف كلمة، ولكنها أيضا يمكن أن تلتقط من ألف زاوية!

.. وليس أسوأ من الصور المتحيزة غير فبركتها في"الفوتوشوب" ونشرها في"الواتساب"..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...