الثلاثاء، 27 أغسطس 2019

حظ المبتدئين


مازلت أذكر أول مرة لعبت فيها البولينج في حياتي.. كانت في صالة رياضية بولاية منسوتا عام 1988.. أذكر جيدا أنني حققت نتائج خارقة وعلامات كاملة لدرجة بدأت أتبجح باحتمال فوزي ببطولة الولاية بنهاية الشهر.. لم يكن الأمر يتطلب أكثر من حمل كرة أثقل من دماغي، ثم دحرجتها لتضرب قوارير تشبه رضاعات الأطفال.. لم أكن أعرف الفرق بين أنواع الكُور، ولا كيفية رميها، ولا طريقة الجري بها - ورفضت حتى تغيير الجزمة التي أتيت بها - ومع هذا حققت نتائج مدهشة على لوحة لا أجيد قراءتها!!

وفي حين أثرت دهشة أصدقائي وتصفيق المتواجدين حولي سمعت رجلا خبيرا - في المسار المجاور لي - يعلق بسخرية : هذا حظ المبتدئين أو Beginner's luck

هذا التفوق جعلني أتعلق باللعبة وشجعني على القدوم لذات الصالة بشكل يومي.. ولكن العجيب أن مستواي بدأ يتراجع بالتدريج لدرجة أنني - بدل الفوز بكأس الولاية - اعتزلت البولينج في نهاية الشهر.. وفي كل مرة يتراجع فيها مستواي أدرك بشكل أفضل المعنى الحقيقي للجملة الساخرة التي سمعتها من الرجل العجوز : "هذا حظ المبتدئين"!!

وحظ المبتدئين أيها السادة ظاهرة حقيقية وملموسة وتثبتها الاحصائيات (وأكاد أجزم أنك مررت بها بطريقة أو بأخرى).. وهي ملاحظة على وجه الخصوص في صالات القمار والألعاب الرياضية والأسهم المالية؛ حيث يساند الحظ المبتدئين وصغار السن، ضد المخضرمين وأصحاب الكفاءة والخبرة.. في البداية فقط..

وهناك آراء كثيرة حاولت تفسير هذه الظاهرة من أهمها أن المبتدئين لا يحملون هم الفوز أو الخسارة ولا يتوقعون من أنفسهم تحقيق نجاحات خارقة.. ولهذا السبب "يلعبون" بجراءة ودون ضغوط نفسية ويجربون طرقا جديدة ومبتكرة.. ولكن، ما أن يبدأوا بحمل هم الفوز والخسارة حتى يتغلب عليهم الخوف والقلق ويصبحون أكثر حذرا وتحفظا واكتفاء بطريقة واحدة (وهي عوامل ترجح احتمال الخسارة على الفوز)!!

.. والآن تخيل معي الدنيا وقد أصبحت ملعبا كبيرا !!

.. تخيلها وقد تحولت الى صالة مضاربة (وهي كذلك بالفعل) يتنافس فيها الناس ويقامرون بحياتهم وممتلكاتهم !!

.. في هذه الصالة يفوز دائما المبتدئون حتى يبدأون بحمل هم الفوز والتفوق والمحافظة على المكتسبات.. وحين يفعلون ذلك (ويتخلون عن جراءتهم وأرواحهم المتحررة) لا ينحدر فقط مستواهم، بل ويصابون بأمراض التوتر والقلق ويعانون من الإحباط وخيبة الأمل.

اسأل رجال الأعمال المخضرمين لتسمع قصصا مدهشة عن جراءتهم وروحهم المغامرة حين كانوا شبابا.. سيخبرونك أنهم كانوا أكثر تهورا وتحررا - وعدم خوف من الفشل والخسارة - حين بدأوا أعمالهم الحرة.. سيخبرونك أنهم لم يصبحوا أكثر حرصا وحذرا - ويحملون هم الخسارة والافلاس - إلا حين أصبحوا يمتلكون الملايين في سن متقدمة. وهذه الروح الخائفة والمتحفظة هي مايمنعهم من اقتحام مجالات جديدة قد تكون أكثر ربحا ونجاحا لو احتفظوا بذات الروح المغامرة التي امتلكوها في مطلع حياتهم (وهذا بالمناسبة سر اختلاف وجهات النظر بين رجل الأعمال المخضرم، وأبنائه الداخلين للسوق في سن الشباب)!!

.. لا أعلم ان كنت فهمت قصدي حتى الآن؛ ولكن المسألة باختصار هي أنه لا يوجد شيء يدعى "حظ المبتدئين"!!

مايوجد بالفعل هو نوعان من المواقف يدفعنا الأول للنجاح والثاني للفشل..

النوع الأول تقف خلفية شخصية مغامرة وعقلية متحررة لا تحمل هم الفوز ولا تخشى احتمالات الخسارة (وتفوز لأنها مفتوحة على كافة الاحتمالات).

أما النوع الثاني فشخصية محافظة ونفسية مترددة تحمل هم الفوز ويعميها احتمال الخسارة (فتنهار لأنها أغلقت أبوابها أمام كافة الاحتمالات).

المشكلة أن المبتدئين لا يبقون مبتدئين الى نهاية العمر.. ولكن ؛ في حال تفهمت أنت سر حظوظهم الخارقة وانتصاراتهم المؤقتة، يمكنك رفع احتمالات فوزك وحملها معك طوال حياتك!!

.. وفي الحقيقة ؛ اليوم فقط بدأت أشعر أنني سأتفوق مجددا لو عدت للعب البولينج.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...