الثلاثاء، 24 سبتمبر 2019

خرافات معكوسة


قرأت ذات يوم إحصائية تفيد بأننا ننظر الى المرآة بمتوسط 32 مرة باليوم.. وهذه النسبة تظل كبيرة مقارنة بعصور قديمة كان فيها الناس يعيشون ويموتون دون أن يروا ملامحهم الحقيقية!!

وحالة كهذه يصعب علينا تصورها كون المرايا-هذه الأيام- تتواجد في كل مكان.. من الصعب تصور حياتنا بدونها، ولكنني شاهدت برنامجاً وثائقياً عن مجموعات بدائية في الأمازون تصاب بالرعب لمجرد رؤيتها(اعتقاداً منهم أنها أداة لحبس الأرواح أو أن ما ينظرون إليه إنسان آخر يعيش في بُعد مسطح)!!

ورغم إتقان المرايا هذه الأيام إلا أنها في الماضي البعيد لم تكن أكثر من طبق فخار يُملأ بالماء.. وكان الحل الوحيد أمام شخص مثل الحطيئة (وهو شاعر دميم يعشق الهجاء) هو البحث عن بركة ماء كي يرى وجهه ويهجو دمامته.. أما في اليونان القديمة فتعلم الناس صقل الحجارة البركانية للحصول على مرايا معتمة.. وفي العراق ومصر القديمة صنع الإنسان مرايا مشوهة بصقل بعض المعادن اللماعة.. ويعود الفضل إلى الصينيين في صنع أسطح أكثر وضوحاً بطلي طبقة رقيقة من الزئبق.. وفي القرن السادس عشر ظهرت في فينس الإيطالية أول مرآة عصرية حين تم طلاء سطح زجاجي مستو بطبقة من الزئبق الذي يعكس قدراً أكبر من الضوء (وأفضل أنواع المرايا هي التي تصنع من زجاج بالغ الشفافية وطلاء يعكس حتى 99% من الضوء الساقط عليها)!!

.. هذا من جهة؛

ومن جهة أخرى ؛ ترافق تاريخ المرآة مع اعتقادات تعكس خرافات الشعوب وتصوراتهم حولها.. فكثيراً ما نصحتني جدتي مثلاً بأن إطالة النظر في المرآة يسبب الجنون ويضعف البصر.. وفي وقت متأخر تعلمت أن إدمان النظر في المرآة يجعل البعض يرى في نفسه ماليس موجوداً بالفعل (وأبحث في النت عن مقال بعنوان: حين أصبت بداء الحطيئة).. وفي المقابل يخشى البعض النظر في المرآة لهذا السبب بالذات فيصاب بالرعب لمجرد مروره بقربها (وهو نوع من الفوبيا المرضية يدعى سبكتروفوبيا)..

أيضا يعتقد البعض أن المرآة لا تعكس صورة أجسادنا وملامحنا -كما نظن - بل صور أرواحنا وسريرتنا وأفكارنا الداخلية.. لهذا السبب يعتقدون أنها تشوه صور الطغاة والخطائين ولا تُظهر صور الشياطين والزومبي ومصاصي الدماء كونهم لا يملكون أرواحاً بشرية (وهذا سر عدم ظهورهم في المرآة في أفلام الرعب)!!

ومن الخرافات الشائعة بخصوص المرآة أن كسرها يجلب سبع سنوات من الحظ السيئ. ويعود هذا الاعتقاد إلى ماقبل اختراع المرآة حين كان الرومان يؤمنون بأن الروح تتطلب (بعد فنائها) سبع سنوات للتشكل مجدداً..

وفي شمال أوربا بالذات يعتقد الناس أن سقوط المرآة في المنزل نذير بوفاة أحد أفراده قريباً وهذا سر عدم تعليقها على الجدران ووضعها ضمن أطر خشبية على الأرض.. وحين يموت أحدهم كان يتم تغطية المرآة في غرفته اعتقادا بأن روحه يمكن أن تعود عبرها إلى حيث اعتادت العيش في الماضي.

وحتى يومنا هذا يصدق معظم الأمريكان بأن النظر إلى المرآة من فوق كتف شخص آخر-كزوج يقف خلف زوجته- نذير شؤم وترجيح لوفاته قبلها.. وبمناسبة الحديث عن وقوف الزوج؛ كانت الأمهات في إنجلترا ينصحن بناتهن (إن أردن رؤية زوج المستقبل) أن يمشطن شعورهن في ضوء خافت لفترة طويلة.. تكفي لرؤيته واقفاً خلفها!!

وبطبيعة الحال؛ لا نحتاج للتأكيد على أن كل هذا مجرد خرافات.. باستثناء الأخيرة.

نعم ..

فقد اتضح أن كلام جدتي صحيح نسبياً كون النظر الى المرآة لفترة طويلة يخلق نوعاً من الهلوسة الموقتة وانفصالاً عن الواقع بحيث يمكن أحياناً رؤية ما تفكر فيه أو ترغب برؤيته بشدة !!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...