الثلاثاء، 24 سبتمبر 2019

آخر الحضارات العظيمة


ظهرت الحضارات كخطوة تالية لاكتشاف الزراعة وبناء المدن والاستقرار على ضفاف الأنهار.. فالإنسان قضى99% من تاريخه متجولاً يبحث عن الماء، ويصطاد الطرائد، ويأكل من ثمار الأرض.. وبين الحين والآخر كان يعثر على أعشاب تحمل بداخلها بذوراً قاسية لم يكن يأكلها إلا مضطراً (ندعوها اليوم قمحاً وحنطة سوداء).. واستمر على هذه الحال حتى لاحظ (شخص ما) في بلاد مابين النهرين (العراق) أن البذور القاسية التي تخرج مع فضلاته كما هي تعود للنمو بشكل أفضل فخطرت بباله أعظم فكرة في التاريخ..

خطرت بباله فكرة زراعة الحبوب بدل البحث عنها وجمعها من الوديان والسهوب. ولأن الزراعة تحتاج إلى مياه عذبة، أصبحت ضفاف الأنهار مركزاً للاستقرار والنشاط الزراعي، وبظهور الزراعة استقر الناس في القرى والمدن وبدأت الحضارات بالتبلور (وهو ما يفسر ظهور الحضارات القديمة على ضفاف الأنهار العذبة كالفرعونية حول النيل، والصينية حول النهر الأصفر، والهندية حول نهر الجانج، والرومانية حول نهر التيبر)..

ويؤكد الباحث الأمريكي جاريد دايموند أن المجتمعات التي انتقلت قبل غيرها من مرحلة الصيد والالتقاط إلى الزراعة وإنتاج الطعام (ثم إلى امتلاك السلاح والتقنية والتصنيع) سبقت غيرها في تأسيس الحضارات والسيطرة مادياً وثقافياً على المجتمعات الأخرى. وما يلفت الانتباه في كتابه "مسدسات وجراثيم وحديد صُلب" تحليله الأمين لأسباب تفوق الآسيويين (في الماضي) ثم العرب (في القرون الوسطى) ثم الأجناس الأوروبية (في العصور الحديثة).. فهو يرى أن الأوروبيين والعرب والآسيويين هيمنوا على العالم بفضل موقعهم الجغرافي المناسب في حين عاشت شعوب أفريقيا وجزر المحيط الهادئ في عزله طويلة وصراع دائم من أجل البقاء - وحسب رأيه لو سكنت الشعوب الأفريقية في أوروبا لهيمن السود على العالم!

ولكن.. مايبدو لي أن المعادلة اختلفت هذه الأيام وبطريقة لم تعرف في تاريخ الإنسان كله؛ فرغم تسليمي بدور الجغرافيا والمناخ والدين في تشكيل الحضارات؛ إلا أن ما أراه حالياً هو أن انفتاح العالم واختلاط الثقافات وتبادل المصالح - ناهيك عن وحدة الطعام واللباس واللغة الإنجليزية -حد بطبيعته من ظهور الحضارات الصغيرة والمستقلة أو ذات الطابع المحلي والخاص على النمط الإغريقي والفرعوني.

فهذا القدر غير المسبوق من التداخل وتمازج الثقافات واللغات والأفكار خلق (هذه الأيام) بوادر حضارة عالمية مشتركة ذات ملامح وخصائص موحدة - ستكون برأيي آخر الحضارات العظيمة.

ورغم اختلافها وتفردها عن جميع الحضارات السابقة (من حيث انضواء كافة الشعوب والثقافات واللغات تحت عباءتها) إلا أنها ستعاني بدورها من ذات التقسيم الطبقي القديم.. فجميع الأمم داخلها تبدو(من الظاهر) متساوية في الحقوق وامتلاك نفس السلع والمنتجات الحديثة، ولكنها (في الباطن) تنقسم إلى أسياد وأتباع.. مبدعين ومستهلكين.. شعوب رائدة وأخرى تدور في حلقات مفرغة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...