الثلاثاء، 24 سبتمبر 2019

هل يوجد مثقف أو فقية في عصر جوجل؟


أصبحت أتساءل - هذه الأيام - إن كان من الجائز إضفاء لقب مثقف أو فقية أو علامة على أي مخلوق بشري في ظل وجود جوجل (ومئات المحركات البحثية المتخصصة)؟

هل يمكن لأي إنسان امتلاك حصيلة معرفية تنافس محركات بحث تختزن 15 مليون كتاب، وتراكم يومياً ما يعجز إنسان على قراءته خلال ألف عام - ناهيك عن حديثها بكافة اللغات، ومتابعتها لكافة المستجدات، وتقديمها للأجوبة الصحيحة بعيده عن الأهواء والميول البشرية!!

.. وياليت الأمر ينتهي عند "التفوق الكمي" لمحركات البحث كونها تتفوق علينا أيضاً في الجانب النوعي، والالتزام الأدبي، والحيادية العلمية - ناهيك عن أخلاقيات الحوار..

فحين تسأل مخلوقاً بشرياً يأتيك الجواب متضمناً عيوباً كثيرة (كتأثره بوجهة نظر صاحبه، وثقافته المحلية، ونظرته الضيقة، وتجربته المحدودة..) يأتيك مشوها كونه لا يسلم من التحيز والتسرع والإسقاط والتجميل والتشوية (..إلى آخر النواقص البشرية والثقوب الفكرية التي لا يسلم منها أي إنسان)!!

وفي المقابل؛ حين تسأل "محرك البحث" فإنك تحصل على مرادك بعيداً عن الإسفاف والاستخفاف والتحيز وتهمة الخروج عن الصراط المستقيم.. لا تحصل على جواب واحد فقط بل على أجوبة كثيرة، وآراء عديدة، ومدارس مختلفة.. تحصل على جوابك الخاص في مناخ من الحرية ونيل حقك في الاطلاع والمعرفة وسماع كافة الأطراف..
وقد يقول قائل: ولكن لا تنسى أن ما يختزنه جوجل وأشقاؤه هو في الأصل نتاج بشري وإبداع إنساني!!

وأنا أقول: لن نختلف كثيراً.. ولكن الزخم المعرفي، والتنوع المعلوماتي، والتلاقح الفكري (في محركات البحث) امتزجت اليوم لتمنحنا شكلاً جديداً من المرجعية العلمية التي لم نشهد لها مثيلاً في تاريخ البشرية.

ففي عصر ماقبل جوجل (على وزن عصر ماقبل التاريخ) كانت المرجعية العلمية في يد فرد واحد (عالم أو حكيم أو فقيه أو صاحب سلطة) يسأله الناس ويلجأ إليه الجمهور..

وكان هذا "الجمهور" يتلقى غالباً جواباً وحيداً يتميز بالتحيز وضيق الأفق وتسفيه الآخر - ناهيك عن كونه نهائياً وملزماً بسبب سلطة أو مكانة المُجيب!!

أما في عصر مابعد جوجل فتغير الوضع تماماً، حيث أصبح الفرد هو من يسأل، والجمهور هو من يجيب..

جرب وضع أي سؤال في النت (سواء عن عدد الرؤوس النووية في إسرائيل؟ أو أفضل طريقة لصيد الجراد أو طبخ الضبان) ستجد مئات الناس يتطوعون للإجابة عليك.. صحيح أن كثيراً منهم ليسوا خبراء في مجالهم؛ ولكن اتضح أن حتى الآراء الناقصة ترتفع في سلم الدقة والمصداقية حين تساند بعضها البعض (وهذا بالمناسبة سر ارتفاع مصداقية موسوعة ويكيبيديا مقابل موسوعة المعارف البريطانية كون الأولى تُصحح وتُراجع من قبل آلاف الناس، في حين تصاغ الثانية من قبيل فرد خبير لا يسلم من الأهواء والنواقص البشرية)!!

.. والجميل أكثر؛ أن الزخم الهائل من الأجوبة - الذي تحصل عليه من محركات البحث - يمنحك خيارات شخصية لم تكن لتحصل عليها لو توجهت بسؤالك لمخلوق بشري وحيد.. فأنت مثلاً تصبح حراً في اختيار الإجابة التي تحل مشكلتك، وعلى علم بآراء جديدة ومدارس مختلفة، وتوصلت بنفسك إلى إجابة تراها أقرب للواقع والمنطق - وفي جميع الأحوال لن يعمد أحد إلى تسفيهك أو اتهامك أو الاستخفاف بسؤالك!!

.. قبل عصر جوجل كنت أقول دائماً "الجلوس مع رجل خبير أفضل من قراءة مئة كتاب".. أما بعد جوجل فاكتشفت أن الجلوس مع سعادته أفضل من استشارة "خبير" يكتفي بنظرته الخاصة ولا يعرف غير تجربته الشخصية..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...