الثلاثاء، 24 سبتمبر 2019

المقدمة


كافة الفنون الأدبية التي تراها من قصة ورواية وشعر ومقالة كانت أفكاراً في رأس كاتبها قبل أن يفكر بطرحها على الورق..

وأنا شخصياً لا أجلس لكتابة المقال إلا بعد أن تتشكل الفكرة مسبقاً في رأسي. ولكن يحدث أحياناً أن أسترسل في المقدمة وأتوسع بها لدرجة الخروج عن الفكرة الأصلية والانتهاء بكتابة مقال مختلف..

فذات يوم مثلاً جلست لكتابة مقال عن "زواج المسفار" فانحرفت إلى استعراض كافة التناقضات التي تميز مجتمعنا السعودي (وتجده في النت تحت عنوان سعوديلوجيا)...

وذات يوم جلست لكتابة مقال عن أشهر الأكاذيب السياسية فانتهيت إلى استعراض أشهر التصريحات الساذجة للرئيس جورج بوش وأعوانه الكاوبوي في البيت الأبيض..

وذات يوم حاولت الكتابة عن خارطة جديدة تظهر أكثر وأقل الشعوب سعادة في العالم، فخرجت عن الموضوع وانتهى بي المطاف لمناقشة علاقة المال بالسعادة...

ولِم نذهب بعيداً أيها السادة!؟.. ها أنا اليوم كنت أنوي إخباركم بأسرار مدهشة عن مقدمة ابن خلدون فانقضى ربع المقال ولم أدخل بعد في الموضوع!!

... على أي حال؛ لا بأس في خروج الكاتب أو المؤلف عن موضوعه الأساسي وإخبار القراء بشيء إضافي قبل أن يعود لفكرته الأصلية.. لا بأس في أن (يأخذ راحته) حين يؤلف كتاباً كون "الكتاب" يمكنه التمدد لمئات الصفحات وقد يتجاوز ذلك لعدة مجلدات.. ولكن المشكلة الحقيقية تبرز حين تحاول كتابة "مقال" ولا تملك سوى مساحة محصورة في الصحيفة.. في هذه الحالة لا يصبح أمامك غير خيارين:

إما مسح مقدمتك الطويلة والعودة من جديد لفكرتك الأصلية (كأن أمسح كل ما كتبته حتى الآن وأبدأ الحديث من أول السطر عن مقدمة ابن خلدون)..

أو نسيان الفكرة الأصلية وإكمال الفكرة الجديدة حتى نهايتها كمقال مستقل (وبالتالي تأجيل الحديث عن أسرار ابن خلدون إلى الغد أو ربما بعد غد)!!

... ورغم أنني تجاوزت نصف المساحة الممنوحة لي حتى الآن، إلا أنني لن أمسح اليوم ماكتبته (أعلاه) ولن أعود للحديث عن مقدمة ابن خلدون يوم الغد أو بعد غد.. يكفيني فقط أن أشير إلى أن ابن خلدون (الذي يعترف الغرب بفضله في تأسيس علم الاجتماع) لم يكن ينوي أصلاً كتابة مقدمته بهذا الطول، ولم يدرك أصلاً أنه سيؤسس بكتابتها علماً جديداً...

ماحدث حسب تصوري أن الرجل (واسمه الكامل عبدالرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي) جلس مثلي لكتابة شيء ما، ثم خرج عن الموضوع وكتب شيئاً لم يردْه أو حتى يتوقعه (فاكتشف بذلك علم الاجتماع)..

فما ندعوه اليوم "مقدمة ابن خلدون" هو في الحقيقة كتاب ضخم وشبه مستقل كتبه كمقدمة لكتاب لم يلفت انتباه أحد رغم أنه الأصل والأساس يدعى "العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر" ..

فخلال محاولته التمهيد والتوطئة لهذا الكتاب استرسل في المقدمة للحديث عن أحوال البشر وتأثير الجغرافيا والمناخ والدين والسياسة على طباعهم وأمزجتهم وقدرتهم على عمران المدن وبناء الحضارات، واضعاً بذلك أسس علم الاجتماع.. وما ساعده في الاسترسال (وتداعي الأفكار حسب تعبير علماء النفس) أنه حبس نفسه أربع سنوات في إحدى القلاع التونسية للتأمل والتفكير والتأليف!

... أنا شخصياً أغبطه على هذه النعمة؛ كونه امتلك من المساحة والوقت (وضمان الدخل) ما جعله يسترسل ويسترسل ويسترسل حتى ينتهي من سرد كافة الأفكار التي تزدحم بها جمجمته.. يحق لي أن أحسده على هذه النعمة كوني مطالباً بقول كل شيء ضمن 500 كلمة والتوقف دائماً عند حدود الإعلان الموجود تحت هذه الزاوية!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...