السبت، 21 سبتمبر 2019

الأخبار المنتخبة


أشرت في مقال قديم إلى أنني سافرت إلى ماليزيا في عز الضجة الإعلامية عن مرض السارس، وإلى هونج كونج زمن أنفلونزا الطيور، وإلى تايلاند حين غمرتها الفيضانات (ودخلت منها إلى بورما فترة اضطهاد أقلة الروهينجيا المسلمة فيها).. وفي حين ألغت معظم العائلات السعودية رحلاتها لاسطنبول في صيف 2013 بسبب المظاهرات، قررت أنا السفر متأخراً وحرصت على السكن في شارع استقلال حيث التجمعات وعمليات الكر والفكر بين الشرطة والمتجمهرين (وشاهدوا كل الصور على موقعي في إنستجرام)...

وقلت حينها إن السر لا يكمن في شجاعتي بل في قناعتي بأن ما تتناقله وسائل الإعلام يكون في الغالب مضخماً واستثنائياً ومبالغاً فيه مقارنة بمجمل الأوضاع في البلاد المعنية.. فوسائل الإعلام لا تخبرك إلا عن الاستثناء والنادر وما يشذ عن القاعدة. فليس مهمة الإعلام إخبارك عن آلاف الطائرات التي تطير بسلام، بل عن الطائرة الوحيدة التي سقطت هذا العام.. ليس مهمته إخبارك كيف يعيش ملايين الناس بسلام في الدول المضطربة ولكنه يخبرك فقط عن التسعة أو العشرة الذين سقطوا في انفجار انتحاري.. لا تستطيع كاميرات التلفزيون متابعة ملايين السوريين والعراقيين والمصريين الذين يزاولون حياتهم بشكل معتاد ولكنها تستطيع احتواء مواقع الاضطرابات الصغيرة التي تحدث هنا وهناك (وفي الإجمال يوحي لك الإعلام بوجودها في كل شارع وزاوية)..

أما الأسوأ من كل هذا فهو أن الإعلام بطبيعته مزاجي، وغير محايد، وسريع الملل، ولا ينقل سوى مايثير اهتمام المشاهدين .. وحين أعود بذاكرتي الى آخر عقدين فقط أتذكر أحداث وصراعات كثيرة تجاهلها الإعلام إما لضعف المتابعة أو عدم المحايدة أو تكرار المشهد وعزوف الناس ببساطة:

1) فهناك مثلاً مسألة إبادة مسلمي بورما وتهجيرهم من ديارهم وأسرهم (وأحيانا حرقهم) واعتقالهم في معسكرات على الحدود مع تايلند وبنجلاديش.

2) وحرب الكونغو الأهلية (التي تورطت فيها أكثر من ست دول أفريقية) وحصدت مابين ثلاثة إلى خمسة ملايين مدني!!

3) كما تجاهل المجازر التي ترتكبها منظمة الرب المسيحية في أوغندا (وأسفرت عن قتل 100 ألف مدني واختطاف 300 ألف طفل لتنصيرهم) وحرب الإبادة في روندا وبورندي...

4) ورغم أن وسائل الإعلام اهتمت بمرض الأيدز في بداية ظهوره (حين لم يتجاوز عدد ضحاياه الألف شخص) تتجاهله اليوم رغم تسببه بوفاة 40 مليون إنسان حول العالم!!

5) وهناك أيضا مسألة اللاجئين (في دول مثل بورما وكمبوديا وليبيريا وباكستان والسودان) الذين يعيشون في ظروف إنسانية قاسية وترتفع لديهم نسبة الفقر ووفيات الأطفال بشكل مخيف..

6) والأقرب من كل هذا تحوّل قطاع غزة إلى سجن كبير ترتفع فيه نسبة وفيات الأطفال إلى 24% والبطالة إلى 48% والحصار المائي والكهربائي والغذائي الذي يتعرض له الناس هناك (حيث لا تُدخل إسرائيل من الأطعمة إلا مايساوي 1500 سعرة حرارية فقط لكل مواطن)!!

... مايجب أن تفهمه جيداً هو أن الإعلام ببساطة لا يهتم برصد الكوارث والمآسي، بل يختار منها الطارئ والشاذ والغريب والجديد على الناس.. لا يخبرك عن نسبة الوفيات المرتفعة بين أطفال العراق وأفغانستان وقطاع غزة (فهذا أمر قديم وممل) ولكنه يكاد يطرق عليك باب بيتك لإخبارك عن إنفلونزا جديدة قتلت في الصين تسعة طيور وعشرة خنازير!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...