الثلاثاء، 24 سبتمبر 2019

المواطن الحرامي


قبل ربع قرن فقدت استمارة تخرجي من الثانوية فلجأت إلى إدارة التعليم بالمدينة لاستخراج (بدل فاقد).. ومن الطلبات التي كان عليّ إحضارها: إعلان، وشهود، وتعهد، وغرامة، ومراجعة المدرسة، ومراجعة الوزارة (ولا أعلم علاقة الوزارة في الرياض بورقة فقدت في المدينة).. وحين استكملت كل الطلبات أتت الطامة الكبرى حيث طلب مني الموظف المسؤول إحضار إفادة من الدفاع المدني أو الشرطة أو المباحث تفيد بفقد الاستمارة.. وحينها غلا الدم في عروقي وقلت له: يا رجل، وما دخل هذه الجهات بشهادة الثانوي؟ قال وعلامات التشفي في عينيه: لابد من شهادة رسمية تؤكد أن منزلكم احترق أو انسرق أو تعرض للاقتحام (وعلى إثره) اختفت الاستمارة.. حينها رميت الأوراق بوجهه وغادرت المكتب على إثره.. بلا رجعة.

وبعدها سافرت إلى أمريكا ودخلت معهد اللغة التابع لجامعة هاملن في منسوتا (الذي صدق حكايتي واكتفى بصورة من شهادة الثانوية).. غير أنني أيضاً فقدت الشهادة التي أعطيت لي من المعهد بعد تخرجي (وأعترف أنني أملك عادة سيئة بهذا الجانب).. وأذكر حينها أنني ذهبت لمدير المعهد لعرض مشكلتي وكان يهودياً يدعى مارك ليندا كنا ننسج حوله الأساطير عن مدى كرهه للعرب والمسلمين.. ووقتها لم تكن سكرتيرته موجودة فقام بنفسه (لاحظ؛ بنفسه) إلى مكتبها وسحب شهادة فارغة – من كرتونة الشهادات – وملأ الخانات المطلوبة ثم وضع الأختام عليها وسلمها لي خلال دقيقتين قائلاً بابتسامة عريضة "خدمة أخرى؟".. وحينها تذكرت موظف إدارة التعليم وبدأت أساءل نفسي: من اليهودي الآن!!؟

أيضا؛ خلال نفس الفترة كان لدي صديق محتال يتنقل بكثرة بين سكن وآخر. وكان كلما استقر في شقة جديدة يتصل بشركة الهاتف الأمريكية (ويعطيهم أسماً مزوراً) طالباً إيصال الخدمة إليه. وحين تصل الحرارة يتحدث فيه لأشهر حتى تنفصل بسبب عدم التسديد.. وبعد يومين يتصل بالشركة (باسم جديد وساكن مختلف) فتعيد الحرارة حتى تنقطع مجدداً لنفس السبب.. وذات يوم دخلت شقته ولم يكن موجوداً فرأيت آخر فاتورة فحاولت قراءة اسمه عليها.. غير أن الاسم الجديد كان صعباً ومعقداً بحيث لم أستطع قراءته من أي جهة (وكان تحديداً Wallaah maadfaa). وأثناء محاولتي حل أحجية الاسم دخل عليّ فبادرته بالسؤال: ما هذا الاسم الغريب الذي أعطيته لشركة الهاتف!؟ ابتسم بخبث وقال: هل قرأته؟ قلت: حاولت ولم أنجح.. قال: أخبرتهم صراحة ان اسمي "والله ما أدفع" ومع هذا شبكوا لي الحرارة مجددا!!

.. وهاتان القصتان نموذجان للتعامل هناك على أساس الثقة العمياء بالمواطن؛ وهذا الأمر لم نفهمه حينها وكنا نعتبره غباء متأصلاً في الأمريكان (إذ كيف لا يطلبون شهادتي الأصلية أو لا يتثبتون من هوية العميل الجديد!؟).. ومالم ندركه يومها أنهم يتعاملون مع عامة الناس على انهم شرفاء لا يسرقون ولا يخدعون ولا يستغلون ثقة الغير/ في حين ان المحتالين نسبة قليلة ونادرة لا يجوز معاملة الناس على أساس وجودها..

وهكذا تكتشف أن القوانين هناك وضعت على أساس التعامل مع المواطن الجنتلمان وافتراض أن معظم الناس شرفاء لا يجوز منع الخدمات عنهم أو تعقيدهم لمجرد وجود احتمال بالغش أو التلاعب (وإن تسبب تلاعبنا نحن في حذرهم من التعامل معنا)..

صحيح ان في كل مجتمع أفراداً يستغلون حسن النية التي بنيت عليها تلك الأنظمة، ولكنهم مهما كثروا يعدون حالات استثنائية ونسبة شاذة لا يجوز تعطيل مصالح الناس أو تعقيد الإجراءات بسببهم/ وهي في النهاية تحسب ضمن "الخسائر المتوقعة" وتحول ملفاتهم للبوليس بشكل دوري!

.. وفي المقابل توضع القوانين في الدول العربية على أساس "المواطن الحرامي" واعتباره محتالاً حتى تثبت براءته؛ لهذا السبب يتم تكبيله بشتى أنواع التعهدات والغرامات والتواقيع وإحضار كم هائل من "الشهود" و "الكفالات" و "الكمبيالات" بل وحتى حجز بطاقة العائلة وتقديم عناوين الأقرباء والجيران.. والمشكلة أننا بهذه الطريقة لا نزيد فقط من تعقيد الإجراءات بل ونرسخ ثقافة التهرب والاحتيال والحد من تطوير الخدمات التي تتم عن بعد ولا تتطلب حضور الشخص نفسه..

.. رجاء.. سهلوا الإجراءات، وتعاملوا من الناس على أساس الأمانة والثقة/ أما المحتال فيُحول للسلطات الأمنية.. ولا يلومن غير نفسه حين يوضع مستقبلاً في "القائمة السوداء"..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...