الأربعاء، 4 سبتمبر 2019

بلا كاتب.. زعيم يهذي


كان القذافي يلقي خطباً ارتجالية تتجاوز الأربع ساعات.. كان يتحدث ويتحدث ويتحدث لدرجة لا يفهم الناس ماذا يريد بالضبط - وينسى من وصل لآخر الخطبة ماذا قال في أولها..

نسميها تجاوزا "خطبة" كونها مجرد هذيان لفظي، وتخبيص لغوي، وعدم تناسق في التفكير وتسلسل الطرح..

وللإنصاف لم يكن الرجل فريدا من نوعه (خصوصا في خطبته العصماء: زنقة زنقة) فهذا النوع من الإسهال اللغوي كان معتادا لدى حكام يعتبرون أنفسهم مناضلين وثوريين ظهروا في العالم العربي وقارة أفريقيا وأمريكا اللاتينية (ناهيك عن كوبا التي حطم فيها كاسترو الرقم القياسي لهتلر بالحديث لمدة ست ساعات ونصف).. كانوا يعتبرون أنفسهم مُلهمين للشعب، وأن كلامهم سيؤخذ كنصوص مقدسة، ولا يدركون أن الناس يغلقون التلفزيونات في البيوت وينامون في البرلمان - وحين يستيقظ أحدهم مرعوبا يحرص على عدم التوقف عن التصفيق قبل الآخرين!

وفي المقابل كان الوضع في الدول الديمقراطية أكثر عقلانية واحترافية وبعداً عن الركاكة والزلل.. فخطابات الرؤساء هناك تصاغ من قبل فريق يرأسه إما اعلامي مخضرم أو أديب بارع أو مؤرخ يدرك سياق الأحداث.. فالمؤرخ الكسندر هاملتون مثلا كتب خطاب الاستقلال لجورج واشنطن أول رئيس أمريكي (ومازال يدرس في المدارس حتى الآن) والمؤلفة المرموقة بيجي نونان (التي دخلت خمسة من كتبها قائمة أفضل الكتب مبيعا) كتبت خطبا للرئيس كيندي، ورونالد ريغان، وبوش الأب، وبوش الابن..

واليوم يرأس فريق خطابات أوباما شاب بارع يدعى جون فافر يعد أصغر مسؤول في البيت الأبيض وصاحب ثالث أكبر راتب في البيت الأبيض (170 ألف دولار) وثاني أصغر كاتب خطابات بعد جيمس فالوس كاتب كيندي..

أما في أوروبا فاستعان توني بلير بالاعلامي المخضرم فيليب كولون، والرئيس الحالي جون براون بعميد كلية السياسة في لندن نيك باتلر - في حين يستعين رئيس الوزراء الاسترالي بول كيتنج بالمؤرخ دون ويستون!!

ويحق لكاتب الرئيس - في هذه الدول - الاستعانة بمستشارين في السياسة والاقتصاد والتاريخ أو الشأن الذي تدور حوله خطبة الرئيس (كالسلاح الكيميائي في سورية أو تاريخ الإخوان المسلمين في مصر).. وبعد ذلك يمرر الخطاب على النائب ووزير الخارجية ومندوب الأمم المتحدة لإبداء ملاحظاتهم قبل أن يعود للرئيس للتدرب عليه أمام الكاميرات بإشراف خبير في الإلقاء..

ومن جهته يدرك الشعب أن الرئيس لا يكتب خطاباته بنفسه، ومع ذلك يتقبلون خطبه بمصداقية كونها تعبر عن رأيه وسياسة حكومته ووزرائه (وإلا لما وافقوا عليه)!!

.. بقي أن أشير الى أن مهمة كاتب الخطابات لا تتعلق فقط بالسياسة بل لكل جانب قد يتحدث فيه الرئيس.. فحين أطلق السوفيات مثلا أول قمر صناعي (في عقد الخمسينيات) شعر الشعب الأمريكي بتأخره في مجالي العلوم والتقنية.. وحينها وقف الرئيس كيندي ووعدهم بتحقيق إنجازين غير مسبوقين قبل عام 1970 هما:

الهبوط على سطح القمر قبل السوفيات (وهو ما تحقق فعلا في يوليو1969)

والثاني اكتشاف علاجات ناجعة للسرطان قبل كافة الدول (وهو ما نجحوا فيه أيضا)!

ووعدان كبيران كهذين تطلبا من جيمس فالوس (كاتب كيندي) التشاور مع علماء ناسا حول إمكانية الهبوط على القمر قبل 1970 كما قام بتوزيع 1000 استبانة على متخصصين في أمراض السرطان بخصوص"معقولية" تضمين هذا الوعد في خطاب الرئيس!!

.. من المؤسف أن التاريخ لا يتذكر غير رؤساء الدول.. وكل زنقة والعرب بخير..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...