الثلاثاء، 24 سبتمبر 2019

مشكلة الواحد بالمئة


هناك مشكلة اقتصادية - وأخلاقية في نفس الوقت - تواجهها جميع الدول بلا استثناء.. مشكلة تركز معظم ثروات البلاد بيد فئة محدودة من الأثرياء، مقابل 99% من الناس يتقاسمون ما تبقى..

ففي روسيا مثلا تتركز معظم الثروة في أيدي 110 أشخاص فقط.. وفي بريطانيا يملك (أكبر ألف غني) ثلث ثروة البلاد.. وفي أمريكا يملك أول 400 ثري أكثر من النصف الأدنى من الشعب..

أما حول العالم بأكمله فاتضح أن أغنى 32 شخصا فقط يستحوذون على 41% من ثروات العالم، وأن أغنى 85 ثريا في العالم يكتنزون ثروات تعادل نصف عدد البشر مجتمعين..

هذه الأرقام كشفها قبل أيام بنك كريدت سويس ضمن تقرير طويل يؤكد مدى الاختلال الحاصل في توزيع الثروات العالمية وتركزها أكثر وأكثر في أيدي الأقلية الثرية..

ويؤكد هذه الظاهرة تقرير منظمة أوكسفام الخيرية التي أكدت بالأرقام (في يناير الماضي) أن ثروات العالم تتراكم أكثر فأكثر في يد قلة من الناس، مقابل فقد عامة الناس لمدخراتهم البسيطة..

وكان عالم الاقتصاد الفرنسي توماس بيكتي قد نشر كتابا بعنوان "الرأسمالية في القرن الحادي والعشرين" أثبت فيه أن الرأسمالية تهدم نفسها بنفسها حتى في الدول الديمقراطية بسبب الارتفاع المتواصل لثروات الأغنياء أصلا، وتقلص مدخرات الطبقة المتوسطة التي تكافح للبقاء فوق خط الفقر (وقدم نماذج لتنامي هذه الظاهرة في فرنسا وأمريكا وكندا وبريطانيا)..

والمشكلة الحقيقية - التي قصدتها أنا في عنوان المقال - لا تتعلق باستحواذ الأثرياء على معظم الثروات، بل في أن وجودهم ذاته أصبح عصب الاقتصاد الحر والمزدهر.. فمعظم الأثرياء (وخذ كمثال قائمة أغنى 400 رجل في أمريكا) صنعوا أنفسهم بأنفسهم واكتسبوا أموالهم بطريقة نزيهة - أو على الأقل غير مخالفة للقانون.. وخلال سعيهم لبناء ثرواتهم الشخصية خلقوا وظائف، وقدموا ضرائب، ورفعوا نسبة الانتاج، وبنوا في المحصلة اقتصاد البلاد (ولك أن تتأمل سيرة هنري فورد أو بيل غيتس لتدرك كم وظيفة خلقا وكم أرباحا حققاها لبلادهما)..

وبناء عليه لا يمكن القول إن المشكلة تكمن في وجود الطبقة الثرية ذاتها، بل في وجود وخلق ظروف سياسية واقتصادية تفاقم نسبة الاستقطاب، وتسمح بتدفق مدخرات البسطاء لجيوب الأثرياء - بدل حدوث العكس - واستحواذهم بالتالي على نسب متصاعدة من ثروات البلاد..

ومن الأمثلة التي قدمها بيكتي في كتابه أن نصيب الواحد في المئة في بريطانيا وأمريكا كان (عام 1950) يساوي عُشر ثروات البلاد.. ولكنه ظل يرتفع باستمرار في السنوات الستين الأخيرة حتى أصبحوا اليوم يمتلكون خُمس ثروات البلاد !!

وفي هولندا وأسبانيا وليتوانيا أصبح الخُمس الأكثر ثراء (من الشعب) يستحوذ على 40% من ثروات البلاد بعد أن كانوا يمتلكون 35% منها عام 1950!!

.. ومع هذا تظل هذا النسب عادلة (وصحية) مقارنة بمجتمعات عربية وإسلامية يصعب ذكرها (..) أما في كولومبيا وتشيلي ونيكاراجوا وجنوب أفريقيا فيستأثر الخُمس الثري بأكثر من 60% من مقدرات البلاد.. وهذا يعني أن أربعة أخماس السكان المتبقين يتصارعون على 40% فقط من الناتج القومي (وهو ما يزيد بالتأكيد من حدة الفقر)..

وفي المقابل توجد مجتمعات أكثر عدالة - من النموذجين السابقين - مثل الدنمرك واليابان والسويد وسلوفاكيا وهنغاريا حيث لا تستأثر الطبقة الثرية بأكثر من 35% من الدخل القومي (وهو ما يترك 65% من ثروة البلاد للمواطنين الأقل دخلا)!!

.. أتصورك تتمتم قائلا: إن كانت هذه حال المجتمعات النزيهة والشفافة، فماذا نقول عن المجتمعات المكبوتة والمنغلقة..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...