الثلاثاء، 24 سبتمبر 2019

يحدث في إسكندنافيا


الولادات غير الشرعية حادثة محتملة حتى في أكثر المجتمعات تديناً ومحافظة.. غير أن نسبتها تزداد لدى المجتمعات الباردة في الشمال وتقل بشكل ملحوظ لدى الشعوب الحارة في الجنوب.. وهذه الحقيقة تعيدني لمقال قديم بعنوان "جغرافية الأخلاق" تساءلت فيه عن سر العصبية والحدة وسرعة الغضب لدى الشعوب الساخنة (في الجنوب) وانخفاضها وتضاؤلها لدى الشعوب الباردة (في الشمال) ووصول برودة الأعصاب ومستوى التحرر أشده في الدول الإسكندنافية في أقصى الشمال الأوربي (النرويج والسويد والدنمرك وأيسلندا وجزر فارو)!

.. واليوم تذكرت هذا المقال وأنا أقرأ تقريراً عن النسب المهولة للولادات غير الشرعية في شمال أوربا- والدول الإسكندنافية على وجة الخصوص.. ففي الإجمال هناك أربعة من بين كل عشرة أطفال في هذه الدول لا يُعرف لهم أب، واثنان من كل عشرة لا يعرف لهم أب أو أم.. وهي ولادات تتم خارج إطار الزوجية وارتفعت نسبتها مرتين منذ عام 1980 حسب صحيفة فايزر الايسلندية.. وقالت الصحيفة إن النسبة تصل أقصاها في ايسلندا حيث تبلغ نسبة الأطفال غير الشرعيين 74% بينما كانت 40% في عام 1980. أما في النرويج فقفزت النسبة بحدة من 15% الى 54%، وفي السويد من 40% الى 50%، وفي الدنمرك من 35% الى 38% !!

.. ولاحظوا أيها السادة أن النسبة تزداد كلما ارتفعنا شمالاً وتبلغ أقصاها في ايسلندا أقصى دولة في شمال الأرض وأكثرها برودة.. وكلما نزلنا جنوباً(حتى ضمن أوربا نفسها) تقل النسبة في الدول اللاتينية وغير البروتستانتية حيث تبلغ في أسبانيا 28% وفرنسا 22% وإيطاليا 21% واليونان 19%- في حين لا تتجاوز نسبة الولادات غير الشرعية في اليابان والفيليبين 2% فقط!!

ورغم أن وجود أطفال بلا والدين يؤثر على تنشئة الطفل (وهذا رأيي) ورغم أنها تبدو لك مصيبة عظمى (وهذا رأيك)، ولكن الدول الإسكندنافية ذاتها لا ترى مشكلة في رعاية هؤلاء الأطفال والتعامل مع الظاهرة على أنها "مجرد أسلوب مختلف في إنجاب الأطفال".. فللإنسان هناك حرية التصرف بحياته والإنجاب بالطريقة التي تناسبه - ولا يستهجن الناس حتى على المستوى الشعبي وجود أم وحيدة، أو طفل مجهول الهوية، أو عيش الجنسين دون ارتباط رسمي.. وحين يولد أطفال بلا أب (وأحياناً بلا أم وأب) لا يقلل ذلك من حقوق الطفل كمواطنين يستحقون التعليم والرعاية سواء ضمن مؤسسات الدولة أو ضمن عائلات متبنية (ويضربون مثلاً في المقابل بوجود آلاف الأطفال الشرعيين في الدول النامية ممن يملكون آباء وعائلات ولكن لا يملكون تعليماً أو تأهيلاً أو ضماناً وظيفياً أو رعاية صحية)!!

العجيب أيها السادة أن هذه الظاهرة (وأعني بها جغرافية الأخلاق وتحررها كلما ارتفعنا شمالاً) أمر تحدث فيه ابن خلدون في مقدمته، وأبقراط في كتاب القوانين، وأرسطو في كتاب السياسة، وكثير من المفكرين مثل ميكافيلس الإيطالي، وأرثيو الإنجليزي، ومونتسيكيو الفرنسي.. أما أول من تحدث عن طباع الإسكندنافيين على وجه الخصوص فكان أحمد بن فضلان (سفير الخليفة المقتدر إلى بلاد الصقالبة) الذي عاش بينهم ورصد طباعهم وتحدث عن تحررهم وعدم تحرجهم حتى من ممارسة ال(...) أمام الحضور!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...