الأربعاء، 4 سبتمبر 2019

أصحاب الشمال


كان لدينا جار تقاعد من المرور منذ زمن طويل.. وأذكر أنني سألته رحمه الله عن أطرف موقف مر به؛ فقال:

كنت أيام شبابي أفضل من يسوق "الدباب". وذات يوم كنت مستظلاً تحت شجرة فمرت بقربي سيارة غريبة لا تشبه موديلاتنا.. وفجأة انتبهت إلى أن من يسوقها "حرمة" .. حرمة تسوق سيارة "ايش صار بالدنيا" .. ركبت الدباب بسرعة وطاردت السيارة حتى أوقفتها.. وحينها رأيت شيئاً لم أره من قبل؛ صحيح إن الحرمة كانت على اليسار ولكن "طارة" السيارة كانت على اليمين.. وبعد ربكة وحيرة تركت المسكينة وذهبت للجانب الأيمن حيث يوجد رجل قصير لم أره من على الدباب. وبعد أخذ ورد (كما هو حالنا العسكر) علمت انه (دختور) باكستاني أحضر سيارته من بريطانيا وانهم "هناك" يسوقون سياراتهم على الجهة الأخرى!!

هذه القصة الطريفة تذكرنا بأن السواقة على اليسار من المظاهر الفريدة التي تميز بريطانيا، ولكنها لغير أهلها عملية مربكة قد تسببت حوادث خطيرة. أنا شخصياً حين زرت لندن لأول مرة كدت أتعرض للدهس ثلاث مرات.. والسبب انني حين أقطع الشارع كنت أتطلع نحو اليسار كما نفعل في السعودية ثم أفاجأ بالسيارات تأتي من اليمين. وبما ان بريطانيا تستقبل 18 مليون سائح في العام فتصور نسبة الحوادث التي قد تحدث للسياح أمثالي سواء كانوا مشاة أو سائقين. ولأن لندن تستأثر ب95% من أولئك السياح عمدت بلديتها جزاها الله خير للكتابة أمام كل معبر أحد التحذيرين: انظر يميناً، انظر يساراً (LOOK RIGHT, LOOK LIFT)‍‍‍‍!

الحقيقة المدهشة ان بريطانيا ليست الوحيدة التي تسوق على اليسار ؛ فهناك 42 دولة على الأقل تسوق بهذا الاتجاه. والعجيب أكثر أن اليابان (وليست بريطانيا) هي أكثر دوله في العالم تسوق بالاتجاه اليسار. فاليابان التي تعد أعظم دولة تصدر سيارات تسير (على اليمين) تزدحم طرقاتها ب67 مليون سيارة تسير (على اليسار).. وبعد اليابان تأتي بريطانيا ب37 مليون سيارة ثم استراليا وافريقيا الجنوبية والهند واندونيسيا وتايلند وماليزيا ونيوزلندا ونيجيريا ومعظم دول الكومنولث البريطاني!!

وبالطبع لأصحاب اليمين واليسار تفسيرهم الخاص لجدوى السير بهذا الاتجاه أو ذاك؛ فالبريطانيون مثلاً يدعون أن السياقة على اليسار امتداد طبيعي للعادة القديمة حين كان من السهل على الخيالة (بسبب تدلّي السيف على يسار الجسد) ركوب أحصنتهم من ذلك الاتجاه . ولكن الأهم في نظري ان ترسخ عادة السير في بلد من البلدان تجعل من الصعب تغييرها إلى هذا الاتجاة أو ذاك.. فعلى سبيل المثال كانت السويد آخر دولة في أوروبا حولت اتجاه السير فيها من اليسار لليمين؛ فبعد حملة إعلامية استمرت عامين أمرت جميع السيارات بتغيير اتجاهها في تمام الواحدة صباحاً من اليوم الثالث من سبتمبر 1967. وكانت العملية مرهقة اقتضت تغيير عجلة القيادة في ملايين السيارات وتغيير الإشارات المرورية في 180 ألف كيلومتر ونقل عشرات اللوحات والمواقف وأكشاك التذاكر إلى الجانب الآخر من الطريق. أما على المستوى الاقتصادي فقد كلفت الحملة بأسعار ذلك الوقت 492 مليون ريال وتحمل كل مواطن قيمة تحويل سيارته؛ كما كسدت مبيعات السيارات وغيرت مصانع ساب خطوط الإنتاج ناهيك عن عشرات الحوادث الناجمة عن عدم تأقلم الناس مع الاتجاة الجديد..

وبعد كل هذا العناء اكتشف السويديون عدم وجود فرق يذكر!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...