الأحد، 14 يوليو 2019

بلاد العقول المتقدة


حين تراجع سوق المنتجات الإلكترونية في بلادنا وفي بلاد العالم أجمع, تلاحظ أن 90% منها يصنع في تايوان.. وهذا بحد ذاته بمثابة معجزة صناعية تستحق الإشادة والتقدير والتعلم منها، لأن تايوان لم تكن حتى خمسين عاما مضت أكثر من جزيرة فقيرة للصيادين.. وفي ظل مواردها الطبيعية الضعيفة، ووضعها السياسي الهش أمام الصين، لم يكن أمامها غير (التصنيع والتصدير) كمورد بديل ودخل مستدام ووسيلة للبقاء ..

وفي البداية كانت الصناعات التايوانية رديئة ومتعجلة وتعتمد على التقليد، حتى أصبحت كلمة "تايواني" رديفا للسلع المقلدة وسيئة الصنع.. غير أن الصناعات التايوانية ارتفعت في سلم الإتقان والجودة حتى وصلت اليوم إلى مستوى متقدم في التصنيع الإلكتروني..

وما دعاني لكتابة هذا المقال اطلاعي على قائمة صغيرة في مجلة الايكونمست الاقتصادية تضمنت ترتيبا لأفضل عشرين شركة وماركة تايوانية.. ومالفت انتباهي فعلا أن جميع هذه الأسماء تخص ماركات تقنية وأجهزة إلكترونية معروفة لدينا مثلmsi, Genius, hTc, asus, acer (وأكثر من عشرين اسما آخر معروفا لمستعملي الكمبيوتر والأجهزة التقنية المتقدمة) دون أن تتضمن أي شركات زراعية أو خدمية أو عاملة في حقل الموارد الطبيعية..

وهذا لوحده دليل على أن تايوان (التي لا تعترف بها معظم الدول إكراما للصين) أصبحت تعتمد كليا على الإبداع الإلكتروني كمصدر للدخل، وعلى عقول أبنائها كمورد طبيعي لا ينضب..

ورغم أن تايوان تشكل -تاريخيا وعرقيا- جزءا من الصين إلا أنها اتخذت منذ البداية منهجا رأسماليا وتصنيعيا أتاح لها التقدم بسرعة مدهشة. وفي حين دخلت الصين في نظام ماركسي مغلق حققت تايوان قفزات نوعية رفعت دخل المواطن السنوي إلى 23 ألف دولار بحلول عام 1980 (في حين لم يزد دخل المواطن الصيني حينها عن ال3 آلاف فقط).. وبحلول عقد التسعينات أصبحت تايوان الفقيرة في كل شيء -ماعدا عقول أبنائها المتقدة- أكبر مزود للشرائح الإلكترونية في العالم، وواحدة من أعظم المصدرين للأجهزة الإلكترونية والتقنيات المتقدمة!!

... وفي الحقيقة تعد تايوان مجرد نموذج لدول ونمور آسيوية أخرى اعتمدت على اقتصاد المعرفة كطريقة أساسية للتنمية ورفع مستوى الفرد والمجتمع..

ففي المفهوم الاقتصادي القديم كانت موارد الأرض، ووفرة العمال، ورأس المال هي العوامل الثلاثة الأساسية للإنتاج .. أما في المفهوم الاقتصادي الجديد فيمكن تجاهل كل ذلك -كما فعلت النمور الآسيوية- والاعتماد كليا على تطبيق المعرفة، وتصدير الإبداع، والاستفادة المتواصلة من المعلومات والابتكارات الجديدة..

وهذه الأيام أصبحت المعرفة التقنية، والقدرة على تطبيقها وتصديرها للخارج أكثر أهمية من المال والعمال ووفرة الموارد في نمو المجتمعات الحديثة.. ويُقدر أن اقتصاد المعرفة يستأثر حاليا ب7٪ من الناتج العالمي، وينمو بمعدل 10 ٪ سنويا.. وفي حين يشكل قرابة 50 ٪ من نمو الإنتاجية في أوروبا وأمريكا يتجاوز 85% في دول لا تملك موارد طبيعية كتايوان واليابان وسنغافورة وكوريا الجنوبية، بالإضافة إلى ورم غير حميد يدعى إسرائيل !!

... وكل هذا يعني أن معارفنا تظل حبرا على ورق، وأفكارنا مجرد أصوات صاخبة، مالم نملك القدرة على التطبيق والتصنيع والاستغناء نهائيا عن تايوان واليابان وكوريا الجنوبية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...