الأرقام بطبيعتها لا تكذب.. وكذلك الأفلام الوثائقية ..
وكانت سعادتي كبيرة حين فاز فيلم "انسايد جوب" قبل أيام بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي .. فأنا من المغرمين بهذا النوع من الأفلام وكنت أتساءل إن كان هناك من سيتفوق عليه في عام 2010
ويتحدث الفيلم عن الأزمة المالية التي بدأت من أمريكا عام 2008 وطاولت العالم كله بعد أسابيع (بما في ذلك سوق الأسهم السعودي الذي انهار من 12 ألف نقطة الى مادون الستة آلاف).. وهو يتضمن أبحاثا ميدانية ولقاءات شخصية واعترافات لمسؤولين يعرفون بواطن الأمور. وكان واضحا أن كثيرا منهم تورط في الحديث أمام الكاميرا لدرجة سحب البعض لكلامه وطالب البعض الآخر بإيقاف التصوير أو عدم إدراج اسمه في الفيلم ..
وحين صعد المخرج تشارلز فيرجسون لاستلام جائزته بدأ بقوله:
"أليس غريبا بعد كل هذا الوقت أن لا نسمع عن محاكمة أو سجن مسؤول واحد"..
فهناك بالفعل مسؤولون ورجال مصارف كانوا على دراية بما ستؤول اليه المديونيات الضخمة والبيوع الصورية وتناقل الرهون العقارية.. وبدل سن أنظمة وتشريعات تتحاشى الكارثة تركت الفقاعة تتضخم على حساب مواطنين بسطاء لا يعرفون حقيقة مايجري.. ومن الطبيعي أن لا نسمع عن محاكمة أي مسؤول لأن المستفيدين من الأزمات المالية هم أنفسهم من يصوغ الأنظمة والتشريعات (بحيث تصب لصالحهم وتضمن في نفس الوقت نجاتهم وسلامتهم)..
ليس هذا فحسب ؛ بل يركز الفيلم على مسألة الرواتب العالية التي يستلمها المديرون التنفيذيون (والتي تقدر بالملايين) في بنوك خاسرة وشركات مفلسة أصلا.. كما يقدم نماذج كثيرة لشخصيات حكومية كانت تقوم بدور المشرع والمنظم لعمليات السوق، ثم تستقيل من "الحكومة" لتعمل في الشركات والمؤسسات التي كانت تقوم بمراقبتها.. وهذا ليس فقط نوعاً من الرشوة بل وخيانة تضمن للشركات المالية التحكم بالمؤسسات الحكومية والاطلاع على خفاياها التشريعية (ومن هنا أقتبس اسم الفيلم: وظيفة داخلية أوInside Job)!!
... والأسوأ من عدم محاكمة أي مسؤول أن الأنظمة التي ساهمت في انهيار الأسواق لم تتغير ومازالت تهدد بتكرار ماحدث مستقبلا.. وليس أدل على حتمية ذلك من حدوثها بشكل دوري منذ عام 1873 وانتهائها دائما بنفس النتيجة المرعبة.. فسواء كانت الأزمة قارية (كالتي طاولت أوربا وأمريكا عامي 1873 و 1929) أو عالمية شاملة (كالأزمة الآسيوية عام 1998 والرهن العقاري عام 2008) أو صغيرة وجانبية (كالتي طاولت روسيا وايرلندا ودبي واليونان العام الماضي)؛ جميعها تنتهي بخسارة الناس مدخراتهم الصغيرة لصالح قلة ثرية تخلق الأزمة وتخرج منها في الوقت المناسب!!
فالأزمات المالية تعد فرصة حقيقية لكسب ثروات خيالية لمن يتحكمون بالأسواق المالية.. ففي العام الماضي مثلا (حين خسر ملايين الناس مدخراتهم ومنازلهم) دخل 97 مليارديرا جديدا قائمة فوربس لأغنى اغنياء العالم اتضح أن معظمهم يستثمر في الدول الفقيرة. وهذه المفارقة تثبت أن سلبيات (أي أزمة مالية) لا تطاول سوى الفقراء ولا تهدف إلا لسحب المال من جيوب البسطاء لصالح الأغنياء وكبار المستثمرين.. فأسواق العالم تُصمم أصلا لخدمتهم وتمويل مشاريعهم من خلال استقطاب مدخرات الناس الصغيرة ثم منعهم من استعادتها في الوقت المناسب (وهو ما يفسر لماذا عجز معظم السعوديون عن بيع أسهمهم في الوقت المناسب حين انهارت سوق الأسهم عام 2006)!!
... وبمناسبة الحديث عن الأسهم؛
أعرف أنكم شعرتم (في لحظات كثيرة) وكأنني أتحدث عن انهيار سوق الأسهم السعودي وليس أزمة الرهن الأمريكي !!؟
... وفي الحقيقة، يكفي أن تغير ثلاث أو أربع مسميات فقط كي يلبس المقال شماغا ومشلحا !!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق