"لا تطلق لصوصاً خلف لصوص كي لا يسرقك الجميع"..
نصيحة سياسية حكيمة يمكن صياغتها بطريقة أخرى: "لا تطلق متطرفين خلف تيار آخر كي لا يطيح بك الجميع"...
كانت هذه غلطة الرئيس المصري أنور السادات في السبعينات، والعراقي صدام حسين في التسعينات (وقبلهما المستشار الألماني هاينريش برونينج الذي رجح كفة الحزب النازي بقيادة هتلر ضد بقية الأحزاب في الأربعينات).
فالرئيس السادات مثلاً شجع الجماعات الإسلامية وعودة الإخوان المسلمين وتكوين التيار السلفي في الجيش والجامعات بهدف إنهاء الوجود الناصري من جهة وإحداث توازن مع التيارات اليسارية والقومية من جهه أخرى.. غير أن الجماعات المتشددة تفرعت وتضخمت وتبنت العنف الذي وصل حد اغتيال السادات ذاته.. وبمرور الأيام خفت مشاعر القومية وانحسرت الأحزاب اليسارية، في حين تضخمت الجماعات الإسلامية واكتسب الإخوان المزيد من الشعبية لدرجة وصلوا لقمة السلطة بعد رحيل حسني مبارك.. وبالكاد نجت مصر من الانفجار برحيلهم..
ونفس الغلطة كررها صدام حسين في منتصف التسعينات حين أطلق ما سمي حينها (بحملة الإيمان) بين أفراد الجيش من الطائفة السنية.. كان يعتقد أنه بهذه الطريقة سيضمن ولاء الجيش والمتدينين السنة بعد هزيمته في حرب الخليج الأولى.. ولكنه في الحقيقة أثار حفيظة الشيعة من جهة، وساهم في تفريخ المتطرفين السنة في الجيش العراقي من جهة أخرى..
وبهذه السياسة لم يخلق فقط تيارين متطرفين ومتضادين، بل ومنح إيران فرصة التغلغل بحجة حماية الشيعة، وابتعاد الأكراد السنة عن التوافق العربي (خصوصاً بعد أن قتل منهم قرابة المئة ألف في ما سُمى حينها بحملة الأنفال)..
وهكذا كان من الطبيعي (بعد سقوطه) أن تظهر ردود أفعال عنيفة من الجميع.. فالأكراد سعوا للانفصال عن العرب، وإيران وجدت لها حلفاء بين الشيعة.. أما الجيش العراقي فتم تفكيكه (بقرار من الحاكم الأمريكي بريمر) فلم يجد المتشددون فيه خياراً غير تكوين تنظيمات متطرفة مضادة خصوصاً في ظل الحكومات الطائفية اللاحقة التي عزلت الضباط السنة عن المناصب المهمة والحساسة...
واليوم يشكل خريجو حملة الإيمان (من الجيش العراقي السابق) ثلاثة أرباع تنظيم داعش ويتولى 120 ضابطاً منهم مناصب قيادية مهمة في هذا التنظيم.. وفي المقابل شكل المتطرفون الشيعة مليشيات مضادة أبرزها "فيلق بدر" و"جيش المهدي" و "عصائب أهل الحق" و"جيش المختار" و"لواء أبو الفضل العباس" التي تحظى جميعها برعاية إيران!!
ومن خلال هذين المثالين ندرك أن سياسة خلق المتطرفين ثم إطلاقهم خلف الآخرين لا تسفر إلا عن ظهور تيارات متصارعة، وردود فعل قاسية، وحلقات ثأر متواصلة..
حين تترك للمتطرفين فرصة العمل (من أي جهة أو تيار كانوا) لن يعمدوا فقط إلى سحق المخالفين لهم، بل ويخلقون تلقائياً تيارات مضادة تتشكل كردة فعل أو محاولة للثأر تقسم المجتمع...
عودوا معي إلى ماقبل عهد صدام لتدركوا كيف كان الشعب العراقي ينعم بالهدوء والتوازن بين كافة طوائفه.. لم يبدأ بالانفراط إلا بعد سياسة خلق المتطرفين وتشجيع النعرات الطائفية سواء برعاية حزب البعث أيام صدام، أو بدعم إيران أثناء وبعد الاحتلال..
تأملوا الشعب المصري هذه الأيام لتدركوا أنه شعب معتدل ومتدين بطبعه؛ وبالتالي لا معنى لتشجيع التيارات المتشددة سوى خدمة أهداف سياسية ضيقة ناهيك عن إثارة حفيظة الأقباط..
باختصار شديد؛ سياسة إطلاق اللصوص خلف اللصوص، أو المتطرفين خلف أي جهة، تنتهي دائماً بتمزيق الوطن وتفكيك المجتمع وخلق حلقات ثأر متواصلة...
... تجربة تكررت في معظم الأوطان وأثبتت أن المتسبب يكون دائماً أول الضحايا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق