الأربعاء، 18 مارس 2020

الـمـلاحـن


يملك سكان غينيا الجديد (شرق اندونيسيا) أكبر عدد من اللغات على مستوى العالم أجمع.. توجد أكثر من 839 لغة (مختلفة تماماً) لشعب تغلب عليه الأمية ولا يتجاوز عدده السبعة ملايين نسمة.. وهذا معدل كبير جداً حير علماء اللغات كونه (مقارنة بعدد السكان) يشبه تحدث السعوديين بـ 2517 لغة مختلفة.. ويعـود السبب إلى أن الحروب المتواصلة بين القبائل القديمة جعلت كل قبيلة تقوم عمداً بتغيير مسميات الأشياء بحيث لا تفهمها القبيلة الأخرى.. كانت تسليتهم الرئيسة هي تغيير الكلمات والمفردات بشكل دوري بحيث تصبح غامضة ومبهمة على مقاتلي القبائل الأخرى.. كان زعيم القبيلة مثلاً يجتمع بالأهالي ويخبرهم أنه «خلاص من اليوم» تم الاتفاق على تغيير اسم الرمح إلى (سابو) واسم السكين إلى (تيناو) والهجوم المباغت إلى (كونا دارو).. وبمرور الأجيال تفرعت وتمايزت لغات غينيا الجديدة إلى حد الانفصال التام - ولـم يعد صغار السن بالذات يفهمون لغات القبائل المجاورة!.

وهذه الممارسة تذكرنا بما كان يحدث بين العرب ويفسر امتلاك أجدادنا لمئات الأسماء للشيء نفســه.. فـالناقة مثلاً كانت تملك ثلاث مئة اسم، والأسد يملك أربع مئة اسم يختلف بين قبيلة وأخرى (بحيث يدعى أحياناً الجساس، وأحياناً الدرواس، وأحياناً أخرى الغضنفر والفدوكس).. كما اعتمد العرب قديماً -مثل سكان غينيا حديثاً- على تمويه الكلام بينهم البعض من خلال ابتكار مسميات جديدة تماماً للأشياء التي يريدون إخفاءها أو يتحرجون من ذكرها كالهرماق والفدلاك والدمّاع والشلباق للعضو الذكري، والقنفود وعنكرة والغلمون والقحفليز للعضو الأنثوي.

والحقيقة هي أن العرب أبدوا منذ القدم اهتمامًا خاصاً بالتمويه والتشفير والتلاعب بالألفاظ (ربما بسبب تشتتهم القبلي).. وكانت الظاهرة سائدة بالذات بين قطاع الطرق والشعراء الصعاليك حيث كانوا يتواصلون فيما بينهم بقول شعر مرمز لا يفهمه غيرهم - ولا يدركه أشراف القبيلة.. كانوا يدعونه تعمية الكلام بحيث يشوهون مخارج الحديث، أو يخفون معناه، بحيث لا يفهمه من لم يتعود على سماعه. وصل اهتمامهم بتعمية الكلام حد قول قصائد وسرد روايات لا يفهمها أبناء القبائل الأخرى.. حاول جابر بن حيان فــك بعض طلاسمها في كتابه حلّ الرموز ومفاتيح الكنوز، كما حاول ذلك أحمد بن خليل الفراهيدي في كتابه المعمى، وحاول الكندي في استخراج المعمى.. وكانت كلها بمثابة اجتهادات عجزت عن فــك تشفير الكثير من (المعمي) في كلام العرب.

وإلى جانب تعمية الكلام كان هناك تلحين الكلام بحيث تقال كلمات معروفة للناس ولكن يقصد بها معاني لا يعرفها غير القائل والسامع فقط (وهذا المعنى سبق المعنى الشائع حالياً والمرتبط بتلحين الموسيقى).. كانوا يسمونها الملاحن ووضع فيها ابن دريد كتاباً خاصاً يحمل نفس الاسـم قال فيه: «اللحن أو الملاحن هي أن تريد الشيء فتدري عنه بقول آخر».. أما ابن المنظور فقال عن «الملاحن» في كتابه لسان العرب: «لَحَنَ له يَلْحَنُ لَحْناً: قال له قولاً يفهمه عنه ويَخْفى على غيره لأَنه يُميلُه بالتَّوْرية عن الواضح المفهوم؛ ومنه قولهم: لَحِنَ الرجلُ: فهو لَحِنٌ إِذا فَهمَ وفَطِنَ لما لا يَفْطنُ له غيره. ولَحِنَه هو عني، بالكسر، يَلْحَنُه لَحْناً أَي فَهمَه».

أمــا في عصرنا الحديث فـتفنن أهل سورية وفلسطين في تلحين الكلام (بمعنى تمويهه وتوريته) وخاصةً اليهود لدرجة أصبح يضرب بهم المثل «ألحـن من يهودي» أو للشتيمة «كاليهود يتحدث بلسانين»..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...