العباقرة الذين تتوافق إنجازاتهم مع الاستعداد المعرفي يلقون التقدير خلال حياتهم.. غير أن هناك فئة نادرة من العباقرة «كمؤسس علم المناعة مندل، ومؤسس علم الاجتماع ابن خلدون» لم ينالوا حظهم من الاعتراف والتقدير كونهم ببساطة سبقوا عصرهم وتجاوزوا فهم مجتمعاتهم.. فالعباقرة - من هذه الفئة - قـدموا أعمالاً مبتكرة ومستقلة لم تـتـكـئ أو تنطلق من التراكم المعرفي للزمن الذي عاشوا فيه .. فأعمالهم وإنجازاتهم لم تكن مجرد إضافة لعـلم سابق أو معـروف، بـل شكلت هي ذاتها منطلقاً لعلم جـديد لم يتوقع وجوده أحـد؛ فعلم الوراثة مثلاً «الذي يبدو مألوفاً لنا هذه الأيام» لم يكن معروفاً أو يخطر على بال أحد حتى القرن التاسع عشر، حين أجرى جريجوري ميندل تجاربه على نبتات البازيلاء. أما ابن خلدون فعاش في فترة مبكرة جداً «حيث توفي العام 808 هجرية»، وبالتالي كان من الصعب على أي جهة استيعاب آرائه الجريئة حول دور المناخ والأقاليم والأمزجة والدين في صياغة المجتمعات وتصرفات الشعوب!!
... أضـف لهذا السبب «الذي أراه أساسياً ومشتركاً بين هذه الفئة من العلماء» أسباباً فرعية أو خاصة بالـعـبقري ذاته، قـد تؤخر الاعتراف بـه لفترة طويلة.. فـهناك مثلاً اعتراض المؤسسات الدينية على الاكتشاف الجديد «كما حصل مع نظرية داروين في الأحياء وكوبرنيكس في الفلك»، أو مخالفة الاكتشاف للمفاهيم الشعبية الراسخة «مثل ادعاء باستير بحدوث الأمراض بسبب الجراثيم والميكروبات وليس المعاصي والـذنـوب»، أو معارضته للنهـج الثقافي والعلمي السائد حينها «مثل قول جاليلو بدوران الأرض، وتجرؤ فيزاليوس على تشريح البشر»، أو نتيجة لاضطهاد سياسي أو عرقي يتعرض له العبقري نفسه «كما حدث مع البيروني وابن سينا وألبرت أينشتاين من السلطة الحاكمة»، أو حتى بسبب غيرة زملائه أو تعنت الوسط المنتمي إليه «مثل ماكسبلانك الذي لم يعـترف زملاؤه بطرحه الفيزيائي إلا بعد انتهاء جـيل كامل من العلماء الألمان» ولا ننسى بالطبع الصراع بين داروين والكنيسة والعلماء المعارضين لفكرة تطور المخلوقات بعد نشر كتابه «أصل الأنواع».. وهي فكرة تسببت «ومازالت تتسبب» بمشادات كبيرة بين المؤيدين لفكرة الخلق والتطور - بـل حتى بين الدارونيين أنفسهم مثل عالم الأحافير جهنسن وصديقه القديم ليكييز حول ما يدعى الحلقة المفقودة بين الإنسان والقرد!!
... من دون شك، مــا يميز هذه النوعية من العلماء ليس فقط أسبقيتهم «ورؤيتهم للمستقبل» بـل شجاعتهم في الوقوف أمام ركام هائل من الآراء الرجعية والأفكار الأحادية والمفاهيم الأيديولوجية الراسخة.. تطور المجتمعات يثبت في النهاية صحة مواقفهم - وأن رفضنا لأفكارهم كان لمجرد الجهل والخوف من التغيير..
كتبت هذا المقال على أمل تفهمنا نحن لآليات الرفض والقبول وطبيعة الاعتراف المتأخر بالإنجازات الرائدة - ودور هذا التفهم في التخفيف مستقبلاً من تعنت المجتمع وتمسكه بمكتسبات ساذجة ورثـها دون نقـد أو تقـييم...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق