حين انتهيت من المرحلة الابتدائية انتهى والدي من بناء عمارة سكنية من خمسة أدوار.. أذكر أنه كان يجلس أمامها في الشارع لينظر إليها بكل فخر واعتزاز.. وفي أكثر من مرة شاهدت الناس يتوقفون ليسألوه إن كانت لديه شقق للإيجار؟.. وذات يوم توقف رجـل (يرافقه طفل أصلع) ليسأله عن شقة فارغة.. تحدثا طويلا حتى سأله عن أفراد أسرته فقال الرجل: بنتان، وهذا الولد، وحرمة (أعزك الله).. اختفت ابتسامة والدي وأشاح بوجهه بعيداً بمجرد أن قال "أعزك الله" .. لم يجب عليه ولم يعـد يكلمه أو حتى يرد على أسئلته حتى غضب الرجل وقال "إيش فيك صاير أصم، ليش ما تكلمني؟".. ظل والدي صامتاً لا ينظر إليه حتى يئس الرجل وغادر مع ابنه الأصلع دون أن يفهم سبب هذا التغير المفاجئ...
... وللأمانة؛ لا أذكر أن والدي تحدث معي في يوم من الأيام عن حقوق المرأة أو أهمية احترامها، ولكنني تعلمت من خلال موقفه هذا وجوب احترام المرأة واحتقار كل من يحتقرها أو يستبق ذكرها بكلمتي "أعزكم الله" أو "أكرمكم الله"..
وأكاد أجزم أنك مثلي تتذكر لوالديك مواقف نبيلة وجميلة أثرت فيك حتى اليوم.. مواقف لم يحدثاك عنها أو ينصحاك بفعلها ولكنها تركت فيك أثراً لا ينسى..
هذا ما أدعوه التربية بالقدوة الإيجابية.. أن تتصرف أمام أبنائك بأخلاق رفيعة تغنيك عن ألـف نصيحة..
ما نفع الكلمات والنصائح إن كنت تفعل أمامهم ما يناقضها؟ .. ما فائدة حثهم على الصدق والنزاهة والأمانة ــ بل وحتى ربط حزام الأمان ــ وأنت تعجز عن تطبيق ذلك أمامهم؟.. سيعتبرونك منافقاً أو ضعيف الإرادة ـ أو في أفضل الحالات تطالبهم بما تعجز عن فعله.. هذا التناقض بين أقوالك وأفعالك سينتهي حتما بتأثير معاكس عليهم ــ وقد تنال بسببه مقت الله (كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ).
وفي المقابل تجسيد القدوة الحسنة أمامهم لا يعفيك فقط من تكرار النصائح والأقوال بل ويُحدث داخلهم تغـييراً فـورياً ودائماً لم تقصده أو تتوقعه حتى أنـت.. قبل أسبوعين مثلاً كنت في تركيا مع ابنّي حسام وفيصل حين شاهدا امرأة تحاول صعود الدرج مع عربة طفلها الصغير.. تقدما تلقائياً لمساعدتها وحملا العربة مع الطفل حتى وصلا به لأعلى الدرج.. وبعد ذهابها سألتهما مازحاً: ما الذي جعلكما تساعدانها من بين كل الرجال حـولنا؟ قـال فيصل: "نفس السبب الذي يجعلك تحمل حقائب النساء على سلم الطائرة"..
وبقدر ما أذهلني الجواب، أسعدني خـلق قـدوة لم أقصدها بينهم..
.. وبطبيعة الحال قد يحدث العكس تماما .. فـحين يراك أطفالك تتصرف بشكل سيئ أو مشين يفهمون ذلك كتصريح (وضوء أخضر) لفعـله مستقبلاً.. فالرجل الذي يحتقر زوجته ينجب أبناء يحتقرون المرأة ويعتبرون زوجاتهم جزءا من أثاث المنزل.. والأب الذي يعامل أبناءه بطريقة عنيفة ومتشددة يحولهم إلى وحوش تعامل أطفالها مستقبلاً بذات الطريقة.. والعائلات التي صنعت ثرواتها من الاختلاس وغبن الناس تنجب هوامير يستبيحون المال العام ويعتبرونه حـقاً للشاطر والمحتال... فـنحن لا نرث من آبائنا صفاتهم الوراثية فقط بـل ونرث جزءاً كبيراً من أخلاقهم ومواقفهم الشخصية..
لهذا السبب؛ إن لم تكن قادراً على تجسيد تصرفاتك كقدوة حسنة أمام أبنائك، لن تكسب من نصائحك غير مـللهم منك وابتعادهم عنك.. لن أعتبرك ملاكاً أو خالياً من العيوب ولكن يمكنك (على الأقل) التصرف أمامهم بطريقة راقية.. لا تحتاج لدكتوراه في علم النفس لـتدرك أن أول (نموذج أخلاقي) يراه الطفل يحتل عقله إلى الأبـد ويطرد لاحقاً أي نموذج يتعارض معه!
... وقبل أن أنسى؛
والدي لم يتذكر القصة التي بدأنا بها المقال، ولكنه أخبرني بالطريقة التي يعامل بها (الطفل الأصلع) زوجته هذه الأيام..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق