لا يمكنني التصديق بأن شعوب اليوم هي ذات الشعوب التي عاشت قديماً في نفس المكان.. لا أصدق مثلاً أن معظم من يعيشون اليوم في المدينة المنورة (حيث أعيش) ينحدرون من الأوس والخزرج والمهاجرين الأوائل.. لا يمكن لمؤرخ محترم الادعاء بأن "العرب" الذين يعيشون اليوم في مصر أو العراق ينحدرون من نسل الفراعنة الذين بنوا الاهرامات، أو البابليون الذين بنوا الحدائق المعلقة..
فالشعوب مثل البحيرات؛ تـفـيض وتغيض وتتغير باستمرار.. تصب فيها روافد صغيرة، وتخرج منها أنهار غزيرة، وتهبط عليها أمطار جديدة، وتتبخر منها كميات كبيرة.. الهجرات التي خرجت من المدينة المنورة عقب فتح الشام ومصر والعراق كادت تفرغها من سكانها الأصليين، وفي المقابل استقبلت منذ عهد النبوة موجات لا تحصى من الوفود المسلمة والهجرات المعاكسة.. كانت قوافل الحجيج والزوار نادرا ما تعود لبلادها كاملة خلال الألف وأربع مئة عام الماضية.. مازلت أذكر بنفسي أحياء المغاربة والأتراك والأكراد والتكارنة التي ذابت اليوم في المدينة ضمن نسيجها الفريد.. وحتى حين قام العثمانيون بمحاولة تتريك المدينة (من خلال تهجير أهلها عام 1334هـ فيما يعرف بسفر برلك) عوضت ذلك بسكان جـدد من قبائل الحجاز وقوافل الحجيج التي استمرت في التوافد إليها..
وحين تفكر في مصر (كمنطقة جغرافية) تكتشف أن تاريخها المعروف يتجاوز السبعة آلاف عام ــ وهو رقم كبير لا يقارن بتاريخ المدينة المنورة أو التغيرات الأثنية التي حدثت فيها.. وفي حال بدأنا بالفراعنة نشير إلى أنهم سبقوا ظهور العرب ولا يمتون إليهم بصلة.. انتهت حضارتهم فعلياً حين خضعت مصر لسيطرة الإغريق بقيادة الإسكندر الأكبر عام 332 قبل الميلاد. وطوال الثلاث مئة عام التالية حكمها البطالمة اليونانيون وكانت كليوباترا آخر ملكة فيهم.. وبانتحار كليوباترا (30 قبل الميلاد) دخلت مصر تحت حكم الإمبراطورية الرومانية العظيمة.. وبعـد سبع مئة عام من خضوعها للاحتلال الروماني دخلها الفاتحون العرب حيث تعربت وتحول معظم أهلها للإسلام..
باختصار؛ كانت مصر سـلة الخبز التي تحرص جميع الامبراطوريات على ضمها إليهــا (وكان آخرها الإمبراطوريتين العثمانية والبريطانية).. وهذا التاريخ الطويل من الاحتلال والإحلال ــ ناهيك عن أعداد لا تحصى من الأعراق المهاجرة ــ جعل سكان مصر اليــوم بالكاد يمتون للفراعنة بصلة بيولوجية..
... ويمكن قول الشيء نفسه عن علاقة اليونانيين بالإغريق، والإيطاليين بالرومان، والباكستانيين بحضارة وادي السند، ويهود إسرائيل (الذي يعود معظمهم لمنطقة الخزر) باليهود الذي خرجوا من مصر بقيادة موسى عليه السلام..
عمليات الهجرة والإحلال والتمازج السكاني تجعل من المستحيل ثبات الشعوب على حالها أو بقـاء الأعراق على نقائها (وأبحث لاحقاً عن مقال: الديموغرافية الإسلامية تنتصر)..
إذا؛ ماذا نتعلم من هذا الدرس الديموغرافي؟
.. ثلاثة حقائق رئيسية:
ــ الأولى: أنك لا تنتسب بالضرورة إلى من تدعي انتسابك إلـيهـم (فخفف من قبليتك وقوميتك تجاة غـيرك)..
ــ والثانية: أن اللغة والثقافة والدين هي التي تشكل هوية الإنسان وتربط الناس بأوطانهم (وليس النسب والعرق والبيولوجيا)..
ــ والثالثة: أن الأعراق والأمم دائمة التبدل والتغير والتلاشي، وأن لا شيء يجمعنا في النهاية سوى أصلنا الإنساني المشترك..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق