في فبراير الماضي2015 كتبت مقالاً بعنوان موسوعة المليون كذبة قلت فيه:
.... وبعد عودتي من الصين تأكد لي أن ماركو بولو لم يصل إليها كونه لم يتحدث عن شيئين لا يمكن لعين المسافر تجاهلهما في الصين: سورها العظيم.. والشاي الأخضر.. واليوم تذكرت ذلك المقال بعد قراءتي شيئاً من رحلات ابن بطوطة..
تذكرت اشتراكه مع ماركو بولو في سرد مبالغات وربما أكاذيب وترك حرية الصياغة والإملاء لأشخاص أقل منهم مستوى..
ولكن؛ قبل أن ننتقل إلى ابن بطوطة دعونا نتفق أولاً على حقيقة مهمة وهي أن تدوين الرحلات (بعد انتهائها) لا يخلو من السهو والتداخل وخلط الوقائع بالأساطير التي يسمعها الرحالة (واسألني أنا).. وما يفاقم هذه المشكلة أن ابن بطوطة (مثل كثير من الرحالة القدماء) لم يكتبوا رحلاتهم بأنفسهم؛ بل أملوها على أشخاص أضافوا إليها حبكة درامية وزيادات غير واقعية بدافع التجميل أو الاستعراض أو التباهي...
وابن بطوطة في الأصل قاض وأديب اسمه الحقيقي محمد بن عبدالله بن محمد اللواتي.. ولد بطنجة عام 703 للهجرة وخرج منها عام 725ه في رحلة شملت الجزائر وتونس ومصر والسودان والشام والحجاز والعراق وفارس واليمن وعمان والبحرين وتركستان والهند والصين وبلاد التتار وأواسط أفريقيا..
وبعد ثلاثين عاماً من الترحال عاد إلى المغرب وأملى تفاصيل رحلته على محمد بن جزي الكلبي بمدينة فاس سنة 756ه ودعاها تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار (في حين أن من كتب مذكرات ماركو بولو روائي مغمور يدعى رستيشيللو سبق أن اختلق قصصاً خيالية عن شخصيات مشهورة كيوليوس قيصر والملك آرثر)!!
... وابن بطوطة بلا شك شخصية حقيقية (مثل ماركو بولو) وقام برحلات تستحق التدوين (بمعايير عصرها) ولكنّ كثيراً من تفاصيل رحلته لم يعد اليوم يتفق مع الوقائع والمعارف الجغرافية الحديثة..
... انظر مثلاً إلى هذه الواقعة العجيبة التي شاهدها في حضرة أحد أمراء الهند.. فقد حضر أحد المشعوذين ومعه صبي صغير فرمى حبلاً في الهواء فاستقام حتى السحاب ثم أمر الصبي بتسلقه.. وبدون تردد نفذ الصبي أوامر المشعوذ وتسلق الحبل حتى غاب عن الأبصار. وحين تأخر في النزول دعاه المشعوذ ثلاث مرات فلم يجبه فأخذ سكيناً ضخمة وصعد خلفه حتى غاب هو أيضاً. وبينما الناس ينتظرون سقطت بينهم يد الصبي ثم قدمه ثم رأسه ثم قدمه الأخرى حتى إذا اكتملت بقية الأعضاء نزل المشعوذ وسكينه تقطر دماً!!.
أيضاً تضمنت رحلة ابن بطوطة أموراً يكذبها المنطق والواقع مثل زيارته لجزر وبلدان تملك فيها النساء ثدياً واحداً، وسحرة يجلسون على الهواء، وجزيرة تستقر على ظهر حوت...
كما يتفق علماء السلف على تكذيب قصته المشهورة عن ابن تيمية.. فقد ذكر أنه حضر يوم الجمعة وابن تيمية يعظ في قلعة دمشق ونزل من درج المنبر وهو يقول إن الله ينزل إلى السماء الدنيا كنزولي هذا.. وأغلب الظن أن هذه القصة مختلقة لأن ابن بطوطة وصل إلى دمشق بتاريخ (التاسع من رمضان عام 726 للهجرة) في حين تم سجن ابن تيمية في قلعة دمشق في مطلع شعبان من ذلك العام وظل فيها حتى وفاته!!
.. وما حدث في تصوري هو أحد أمرين:
إما أن ابن بطوطة كان يخلط الوقائع بالأساطير، أو أن ابن جزي كان يختلقها على لسانه...
على أي حال؛ ابن بطوطة لم يكن فقيهاً أو صاحب مذهب وبالتالي يمكن مناقشة سيرته، وتفنيد رواياته، ونقد آرائه؛ دون خوف من تكفير أو خروج من ملة... وكُل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق